أربعة أيام في هولندا الجزء الثاني

إستغرقت الرحلة حوالي الأربع ساعات للسفر من القاهرة إلى مطار " سخيبهول " في هولندا ، الطريف أنني عرفت فيما بعد ان هذا المطار العملاق يقع تحت مستوى سطح البحر بحوالي ثلاثة امتار ؛ أي أنه كان من الممكن أن نتخيل كيف تهبط الطائرات تحت امواج من المياه ، عندها سيرتدي الركاب بذلات الغوص من اجل الخروج إلى السطح و حمل حقائبهم العائمة إلى الوجهه التي يريدون الذهاب إليها ، لكن ذلك لم يحدث بفضل الخبرات العلمية والعمل المخلص و هو ما جعلني أتحمس أكثر لخوض "التجربة الهولندية".

"أمستردام" والكهرباء الخضراء
إنها العاصمة الهولندية الشهيرة ، وهي أول محطة لي هناك ، لكن الوقت كان ضيقا للغاية فلم أقدر على إستكشاف المدينة الجميلة ذات البيوت الأوروبية القديمة الطراز ، و إنتقلت إلى حيث توجد وزارة البيئة والإسكان و التخطيط القومي ، لأقابل السيدة المتواضعة وزيرة البيئة الهولندية " جاكلين كريمر " و التي ترتسم على وجهها إبتسامة ترحيب تظهر في واقع الأمر عمق فهمها للطبيعة و حبها للتعاون من اجل البيئة و بادرت بقولها:"الحفاظ على البيئة ليس رفاهية ، لأنه ينبغي علينا جميعا أن نعمل من اجل الحفاظ على بقائنا و بقاء أولادنا على ظهر هذا الكوكب أحياء سالمين"، ثم ذهبنا في رحلة عبر القنال لنختبر بأنفسنا مشروعا جديدا يطلق عليه إسم " أمستردام بالكهرباء الخضراء" ؛ حيث يتم تسيير العجلات ، و الموتوسيكلات ، و السيارات بالكهرباء بدلا من الغاز الطبيعي ، لكن الكهرباء هذه المرة تأتي من أشعة الشمس بواسطة خلايا شمسية خاصة تعمل على تحويل الطاقة إلى كهرباء، لذا فهي معروفة بإسم الكهرباء الخضراء ، أي التي لا تضر بالبيئة .
و من الطريف ان نعلم ان العاصمة الممطرة تمتلك أكثر من 550.000 دراجة عادية، وأن حوالي 75% من سكان العاصمة بدءا من عمر 12 سنة و أكبر يمتلكون دراجات خاصة ، بينما تشكل الإنتقالات المعتمدة على الدراجات نسبة تصل إلى 38% من إجمالي حركة المرور ب"أمستردام" ، كما ان للدراجات طرق خاصة ممهدة و مزودة بإشارات مرور و لها أماكن خاصة للتوقف مجانا،و من المقرر كذلك أنه سوف يتم شحن وسائل المواصلات التي تعمل بالكهرباء الخضراء مجانا ، بالإضافة إلى تخصيص مواقف خاصة لهم بالمجان أيضا ، و هذا بالطبع من أجل تشجيع المواطنين على الحفاظ على البيئة.


" هيندلوبن " و سدود قابلة للطيّ !
ربما لا نعلم أن الهولنديون يعشقون الإبتكار من الطبيعة، فالسدود هناك يمكن طيها بسهولة أو إطالتها كي تصبح بالطول المطلوب ، ومن الممكن أيضا ان يترك المهندسون الطبيعة تبني وحدها السد ، فقط عليهم التأكد من أن الطبيعة قد أتمت بناء السد إلى الإرتفاع المطلوب ، و من اشهر أمثلة هذه الإبتكارات الطبيعية هو سد موجود على بحر الشمال مباشرة يسمى " هيندلوبن" و يحمل تمثالا لشخص يضع آخر حجر لإغلاق السد.
عجيبة "روتردام " الجديدة!
أظنك سمعت عن أن برج " بيزا" المائل كان من أحد عجائب الدنيا القديمة و أشهرها ، و يماثله في هذه الشهرة برج "إيفل " في فرنسا ، لكن الهولنديون ، صنعوا بناية أخرى لا تمثل برجا بالمعنى المفهوم إلا أنها ضخمة أيضا ، و هي عبارة عن سد متحرك على شكل بوابتين متحركتين لغلق ميناء " روتردام " أثناء الفيضانات حين يرتفاع مستوى سطح الماء ، بغرض حماية الأراضي من الغرق، و جاء التفكير في بناء هذا الحاجز بعد أحداث المأساة الحزينة التي لا يزال كل الهولنديون يذكرونها بمنتهى الألم ، و التي كانت بسبب فيضان عام 1953م ، الذي تسبب في إغراق المئات و تشريد العديد من المنازل ،و تدمير العديد من القرى والمحافظات الهولندية ،فتم إنشاء الحاجز الذي يسمى " مايسلانت كيرنج "، ليكون مرنا في الحركة بحيث لا يمنع حركة السفن في المعبر المائي خاصة وان إقتصاد هولندا يعتمد عليه بشكل كبير ، لكنه في نفس الوقت يحمي ما وراءه من يابسة عند إرتفاع مستوى الماء ، و صمم الحاجز بحيث يتحكم في حركته أربعة حواسيب عملاقة و دقيقة جدا ، و عندما تم قياس هذا الإنشاء الضخم و جد أنه يماثل في الإرتفاع تماما إرتفاع برج "إيفل "، لكنه يزيد عنه في أن كمية الحديد المستخدمة في بنائه و وزنها تزيد إلى الضعف عن مقدار ووزن الحديد المستخدم في بناء برج" إيفل " ، وفي العاشر من مايو عام 1997م، قامت ملكة هولندا الملكة " بياتريس" بإفتتاح الحاجز المائي ليكون بذلك بمثابة عجيبة جديدة لمدينة "روتردام".

" هارلينجن" و الطاقة الزرقاء!
يبدو و أن كل شيء في هولندا يعود إلى المياه ثانية ، فهناك مشروع جديد و طموح لإستخلاص الطاقة بكل صورها و خاصة الطاقة الكهربائية من المياه!!؟؟؟
فكيف ذلك ؟؟
النظرية بسيطة جدا و هامة جدا في نفس الوقت ؛ فمن المعروف أن عملية تبخر المياه من أسطح المحيطات و البحار المالحة تستهلك طاقة الشمس، و بينما تتصاعد الأبخرة في الجو عاليا لتتكثف و تكون السحب الغنية بمياه المطر، فإن حبيبات المطر تتجمع و تتساقط فيما بعد عند تحسن الظروف الجوية لتكون بذلك مجاري المياه أنهارا ، وتعود الأنهار لتصب من جديد في البحار ، وعند إلتقاء المياه العذبة بالمالحة يتم تخفيف ملوحة مياه البحر، فإذا كانت عملية تركيز ملوحة البحر تحتاج إلى طاقة ، فإن بالتأكيد تخفيف ملوحة البحر يؤدي إلى تحرر الطاقة !
و هنا تكمن طاقة المياه ، و بتكنولوجيا خاصة جدا تعتمد على الأغشية الكيميائية الحساسة يمكن إستخلاص الطاقة عند مصب الإنهار في البحار المالحة ، هذا هو المشروع الذي أطلق عليه الهولنديون إسم " الطاقة الزرقاء".
"بومللير فارد" عائمة على سطح الماء!!
فكرة العوامات النهرية كانت موجودة في مصر منذ زمن بعيد ، لكن التقنية التي تبنى بها المنازل العائمة وتجهيزات تلك المنازل التي يمكن أن تكون على طابقين أو ثلاثة ، تعتبر تقنية حديثة جدا ، فالمنزل العائم ثابت في موقعه بسبب إسطوانات كبيرة للتدعيم ، كما أنه موصل بنظم متطورة للصرف و الكهرباء و التدفئة الداخلية عبر أنابيب خاصة جدا ، بينما يرتكز المنزل على طبقة عائمة من "البوليستيرين" الذي لا يمكن أبدا أن يتفاعل مع الماء او حتى الذوبان و يستطيع تحمل أثقالا كبيرة جدا بكفاءة عالية . هناك نوعان من المنازل العائمة في هولندا ؛ أحدها دائم الطفو أي أنه غير متصل بأي حال من الأحوال باليابسة ، و يشعر القاطنين فيه بحركة المياه الموجية طوال الوقت ، أما النوع الآخر فهو المنازل إختيارية الطفو و التي تتصل في أجزاء منها باليابسة مما يمكن سكان المنزل من إمتلاك حديقتهم الخاصة، لكنها تطفو فقط عند إرتفاع منسوب المياه بسبب الفيضانات.
إشرب مع الريح !!
يمكنك أن تشرب كوب ماء نظيف من الريح !
بالإعتماد على الريح من خلال طواحين الهواء ( لكن هذه الطواحين من نوع خاص مهيأ تماما لإتمام عمليات تحلية و تنقية لمياه البحر او للمياه الجوفيه من خلال غرفة صغيرة ملحقة لهذا الغرض أسفل الطاحونة ) ، بحيث يخرج من وحدة طاحونة الهواء المركبة بغرض الشرب ، مياه عذبة و صالحة للإستخدام الآدمي ، و يمكنك أن تتخيل مدى أهمية و كفاءة هذا الإبتكار في الحصول على موارد للشرب في عالم أصبحت فيه المياه شيء نادر و غالي الثمن جدا.
الأرض المنخفضة
هل تعرفون ما معنى "نذرلاند" الإسم الذي يطلقه الهولنديون على بلادهم ؟
إنها تعني " الأرض المنخفضة"!!
ذلك لأن هولندا بلاد تقع تحت مستوى سطح البحر في معظم أجزاءها و على مدار مئات الأعوام و السنوات إستطاعت هولندا أن تتعايش مع المياه في سلام إلى حد كبير بل و تقتنص منها المزيد من الأراضي، وتحميها بواسطة العلم، لقد أدركت من تجربتي في هولندا أن السحر يعني كلمة "علم " و أن "التكنولوجيا" تمثل العصا السحرية التي يطلق بها الباحثون تعويذتهم السحرية ، فبها يصبح المحال ممكن جدا و بديهي ايضا، و الدليل مطار " سخيبهول "!!!

معلومات من "هولندا "
تشغل الأراضي الهولندية الجزء الغربي من السهول الشمالية لأوروبا .
تمر بالأراضي الهولندية أربعة أنهار هي : الراين ، ماس ، تشيلد ، فال ، لذا تعتبر هولندا دلتا كبيرة لهذه الأنهار الأربعة.
قام الهولنديون بإستقطاع الراضي على حساب البحر ، و منها على سبيل المثال مقاطعة " فليفولاند" التي تم إستقطاعها عن طريق ردم مياه البحر ، وقام الهولنديون بحماية الباقي عن طريق السدود و الحواجز.

تمت بحمد الله

تعليقات

المشاركات الشائعة