لهذه الأسباب أنصحكم بعدم الذهاب لعروض السينما اليابانية !!

الحلم يبدو أحيانا كسرد واقعى لأحداث تمر بك و تستغرق كل كيانك و تفكيرك و أحاسيسك حتى أنه أحيانا يبدو من المستحيل التخلص منه أو الفرار من تأثيره .. و ربما لازمك الحلم حتى بعد أن تستيقظ ، فتجد نفسك لا زلت تحمل ذلك الشعور العجيب الغريب الذى احسسته و أنت تحلم  مع انك قد ترى شخوصا أخرين فى الواقع و تؤدى طقوسا أخرى من طقوس حياتك اليومية ... إلا أننى ظللت مع ذلك أستمع إلى ألحان تلك الأنشودة  على أوتار آلة " شاميسن " التى تشبه إلى حد كبير الربابة العربية ، مرة تلو الأخرى .. و بدأ السؤال يفرض نفسه على .. ما هذه الحالة التى أعيشها الأن ؟ حلم ؟ أم أنشودة فى ليلة صيف ؟

ترى كم مرة ظل رأسك يردد كلمات لأغنية ما مرارا و تكرارا دون أن تدرك سببا لملازمة تلك الأغنية و قربها على لسانك أو كم مرة سمعك أصدقاؤك و انت تدندن بلحن ثابت لا يفارقك ، ثم أصبح اللحن عدوى سريعة الإنتشار بينهم ؟ هكذا كانت " شيما أوتا " بالنسبة لى .. لا أقصد بالنسبة للعالم أيضا !!
"Shima Uta"  هى الأغنية التى سمعها العالم لأول مرة فى 1992م  عندما كتبها المغنى الرئيسى لفريق "the Boom"  و إسمه " كازوفومى ميازاوا" و ترجمتها " أغنية الجزيرة "، غير أننى للأسف لم أسمع بها إلا فى عام 2015م  ، و طوال هذه السنوات تغنى بها العالم بأكثر من لغة ، و أكثر من توزيع موسيقى مختلف ، و قدموا عنها العديد من الحفلات الموسيقية و العروض المشتركة ما بين فريق " the Boom "  و بين مغني العالم و فرق العالم الشهيرة ، حتى أن العائلات و الشباب ،  و الأطفال و الشيوخ تغنوا بها لتنتشر الأنشودة ..  بلحنها .. و كلماتها .. تماما مثلما حدث معى ..  (أعلم كيف بدأ الأمر) .. إستمع الناس إلى اللحن و الكلمات و الأداء العبقرى للمغنى فى باديء الأمر .. ثم ما لبث أن ظلت أوتار تلك الألة الصغيرة تعبث بعقولهم ، كما عبثت بعقلى .. و بدا لهم أن هناك حالة ما أو روحا ما سكنت داخل عقولهم تحدثهم عن ذلك " الكوبليه " المكرر ذو الكلمات السحرية .. التى لم أفهم أيا منها فى البداية ؛ إذ أنها باللغة اليابانية  ..لكنها إستهونتى تماما .. و عندما كنت آوى إلى فراشى كل ليلة كانت تلك البساطة العجيبة فى اللحن و ذلك الوضوح المحسوس فى دخول باقى الألات تباعا مع موجات متتالية من الصوت الخفيض يعقبه الصوت العالى فى الأداء الموسيقى .. ثم حالة المغنى نفسه وهو يشعر كل كلمة يقولها حتى أكاد أجزم بأنى ولدت لأتحدث اليابانية بطلاقة رغم أنى لم أزر اليابان ولا مرة !!.. صورة متكاملة تبدو ككتلة من الأحاسيس العالمية الموحدة تجاه الموسيقى أو فلنقل دليل إثبات بأن الموسيقى حقا لغة عالمية لا تحتاج للترجمة أو إلى تأشيرة دخول .
فقط .. هناك تعديل صغير على تلك الصورة ..
انا لم أسمع الأغنية من المغنى الرئيسى أو من الفريق الذى كتبها و ألفها و لحنها .. أنا سمعتها فى إحدى عروض السينما ذات يوم عندما كان فيلم " حلم ليلة صيف " يعرض بمعالجة يابانية ضمن إحدى فعاليات السينما داخل السفارة اليابانية .. العرض لم يكن بأجهزة تجسيم الصوت ، و لم يحمل الأضواء المبهرة مثل الحفلات ، و لم يؤديه احد متخصصى الموسيقى المشهورين ، إنما كان إجتهادا شخصيا لممثل الإعلام والثقافة اليابانية بالسفارة " السيد ماتسوو" .. إلا أنها كانت صادقة و كانت حالمة و كانت بسيطة تماما بلا تكلف .. فصمتت القاعة كلها و أذعنت قلوب الحاضرين فى ذلك الوقت .. أو هكذا بدا لى الأمر ، وربما توقيت عرض الأغنية كان السبب فى شعورى بتلك الاحاسيس .. فلقد سبق ذلك عرضا عن جبل " فوجى " رمز اليابان  الذى إعترف بها العالم فى عام 2013م بإدراج اليونسكو له ضمن قائمتها للتراث العالمى تحت عنوان " فوجى سان " مكان مقدس و مصدر للإلهام الفنى ، و بالفعل قد كان الجبل كذلك .. ففى الفيلم التسجيلى القصير الذى شاهدته عن الجبل ..و بعيدا عن المعلومات التى قد يمل منها البعض أو ربما لا يتذكرها أحد .. كانت هناك مشاهد لم تتعد الدقيقتين عن شكل الجبل فى مواسم العام المختلفة و فصول السنة .. " واو " هكذا تحدث وجدانى ؛ ما هذا الجمال .. لم أر جبلا يمنحك ألوان النور و الظلام و الإشراق و الدفء و الزهور و الحصاد مثل هذا الجبل بقمته الجليلة و شكله المخروطى المميز ، فقد كان " فوجى" فى الأصل جبلا بركانيا ، إلا أنه خامد حاليا و قد سجل التاريخ أخر إنفجار بركانى له فى عام 1707م  أى منذ أكثر من ثلاثمئة عام .. و لهذا السبب تحديدا يشعر اليابانيون تجاه " فوجى سان " بالقدسية ، و يعتقدون أن الألهة تسكن قمته سواء فى الديانة ال"شنتورية " القديمة أو البوذية  ،كما انهم يرونه الجبروت الرهيب ، كونه بركانا لا يعرف موعد ثورته  القادمة إلا الله عز وجل .
اخذنى الجبل بصوره و قصته و رمزيته من الواقع فبدا لى أنه لا ضرر من قليل من الحلم .. خاصة بعد أن بدأ فيلم السينما " حلم ليلة صيف" عن جزيرة يحميها الجن الذى يعمل على دعم البشر و مساعدتهم .. القصة مأخوذة عن رائعة " ويليام شيكسبير" حلم ليلة صيف .. و مع الكوميديا و التراجيديا و الموسيقى و الأحداث و كلمات اللغة اليابانية التى لا بد و ان تلتقط بعضها أثناء المشاهدة .. خرجت محملة بطاقة من المشاعرو الإنطباعات التى لم تفارقنى إلا عندما إنفرد صوت الة " شاميسن " يدندن فى رأسى و هكذا أصبحت أتساءل .. أنشودة ؟ ام حلم ؟ فى ليلة صيف ؟
و كى أبحث عن الإجابة ظللت أتردد بإنتظام على مواعيد عروض السينما اليابانية المجانية و التى عادة ما تكون مرة كل شهر و ربما تكون فى الخميس الأخير من الشهر ، و فى كل زيارة كنت أخرج بالمزيد و المزيد من الأحاسيس و الأفكار المتداخلة ، لا يربطها ببعضها البعض سوا لحن " شيما أوتا " و كأنه يردنى إلى نقطة البداية من جديد ..
 حان موعد العرض و بدأ الفيلم قصة جديدة حول بضعة فتيان يجيدون السباحة بمهارة فائقة ، و لكن احدهم يفطن لجمال السباحة التوقيعية التى لا تمارسها إلا الفتيات فقط ، ثم تشاء الظروف أن يكون ضمن فريق السباحين لأول سباحة توقيعية للجنس الخشن .. رحلة تعلم و تحدى .. و مواجهة المجتمع من أجل تحقيق النجاح و إثبات الذات و إكتساب الثقة بالنفس .. و خلال هذه الرحلة لم يكن هناك مفر من ان يتعلم هؤلاء الفتيان و نتعلم معهم جمال الطبيعة و قيمة الكائنات الحية بكل أنواعها .. فوسيلة التدريب كانت عبر تنظيف احواض المتحف المائى الذى يحتوى على أصناف مختلفة من الكائنات البحرية .. و فى عالمهم الفريد " الماء" كانت حركاتهم خلابة مدهشة ، تماثل بكل مهارة حركات و إيقاعات السباحة التوقيعية .. و مع أحداث الفيلم .. وجدت نفسى أتذكر عرضا أخر عن التحدى عرضته ليالى السينما اليابانية فى السفارة .. عن أم تجيد عمل وجبة مدرسية متكاملة ، تنفصل عن زوجها ، و تعيش مع إبنتها دون ان تعرف لها هدفا محددا فى الحياة .. و لكنها قبلت تحدى الحياة و تحدى السؤال الذى تطرحه القصة : ترى هل سأنجح ؟أم لا؟
و مع الأحداث أجد نفسى إمرأة يابانية .. لا أنا إمرأة مصرية .. لكن ما بال هذه السيدة تبدو مثلى تماما !! بإظطرابها ؟ و إنفعالها ؟ و هدوئها ؟ و سكونها ؟ بأحلامها ؟ بيقظتها ؟  بكيت معها و ضحكت معها و وأصبحت فى بعض المشاهد جزءا منها .. و ادركت قيمة رغبتها فى البحث عن الذات و تحقيق النجاح ؟
 و لكن الإجابة على هذا السؤال جاءت سريعة .. يبدو أن كوكب الزهرة الذى تنتمى إليه كل نساء الأرض ليس به مناطق جغرافية أو إختلافات عرقية .. هو فقط يضم كل النساء ..حسنا إذن !!
 لكن لماذا تذكرت هذا الفيلم ؟!! أه .. نفس التحدى الذى يواجه فتيان الماء .. نفس الرغبة فى النجاح .. نفس البحث عن الذات .. نفس القدرة على العمل الدؤوب تبدو متماثلة تماما .. و يبدو معها ان كوكب المريخ الذى يأتى منه كل رجال الأرض له نفس المنطقية فى إلغاء الحدود الجغرافية و الفرقة العرقية ..ثم هدأت الأسئلة قليلا فى رأسى .. و بدأ لحن " شيما أوتا " يعلو بدلا منها ثانية ..
و قررت البحث عن الأغنية ذاتها لعلها تحمل الإجابة لحالة الهوس بداخلى ..

و هنا على هذا الموقع .. بدأت خيوط الأمور تتضح فى رأسى .. رساله كتبها المؤلف و المغنى الرئيسى للفريق لكل العالم يحثهم على ان يقدموا ما لديهم .. أن يبحث كل منهم بداخله عن جزيرته التى يريد أن يغنى لها .. و يتذكر معها أثار الحروب المدمرة و حلاوة السلام و الطمانينة http://www.nhk.or.jp/j-melo/nhkworld/english/shimauta/message.html

لهذا السبب نحن نطلق على اليابان الواقعة أقصى شرق الأرض إسم " كوكب اليابان" على الرغم من كونها مجموعة جزر على خريطة أطلس العالم .. لأن ما مر به اليابان من أوقات الإنكسار و البناء ، أوقات الأنهزام  ثم الإنتصار ، كان قياسيا .. كان بمثابة المعجزة  .. سقطنا اليوم .. إذن كان هذا هو حدث اليوم ، و خلال الساعات المتبقية و قبل ميلاد فجر اليوم الجديد علينا ان نفكرفى خطة النهوض .. ثم يأتى الغد .. فلننهض مجددا و ننفذ خطتنا التى إستقرينا عليها .. لا وقت لإضاعته ، و لا وقت للبكاء .. و لا وقت للحزن .. أو حتى لطرح أسئلة سخيفة كتلك التى مازلت أطرحها ..
 حسناً يبدو أن هناك المزيد كى أتعلمه ..
و تخيل المفاجأة عندما يتعلم شخص بالغ من مجرد فيلم للرسوم المتحركة !!
كان هذا فيلم  "مقبرة فراشات النار"  اليابانى عرض شهر أغسطس لهذا العام .. و الذى تدور أحداثه حول الحرب العالمية الثانية و احداثها المحزنة ..لأول مرة أجد قاعة السينما ممتلئة عن أخرها .. بل هناك من تحمل مدة عرض الفيلم واقفا على قدميه .. و لم لا أليست اليابان هى الدولة الأولى فى العالم من حيث إنتاج أفلام التحريك و إبتكار شخصياتها العالمية حاليا .
أدركت من خلال الفيلم أن ألام كل البشر واحدة .. أن مطالب كل البشر واحدة .. و أن حياة كل البشر واحدة .. قد تختلف الألسنة و اللهجات .. و الثقافات لكن يبقى شيء واحد يدق بإنتظام يحمل نفس الوجدان والمعنى .. فأجسادنا جميعا تحمل نفس القلوب و تدق القلوب بنفس الطريقة لنفس الإنفعالات و المواقف و التجارب الإنسانية بنفس الطريقة ..
 لقد جسدت " شيما أوتا" قصة حب بين فتاة و فتى .. إلتقيا على جزيرة و إفترقا على نفس الجزيرة بسبب الحرب .. فرحة اللقاء و أحزان الفراق ظل ثابتا .. ففى كل العالم هناك ملايين البشر يلتقون يتحابون .. يفترقون .. يحزنون .. ثم يخلدوا ذكراهم فى لحن داخلى .. لحن قد لا تسمعه أنت أحيانا .. لكن فى لحظة ما .. و فى وقت ما عندما تكون الظروف مهيئة تماما و عندما تكون مستعدا لسماع ما بداخلك قد تذكرك ألحان أغنية ما فى عرض ما بهذا اللحن الداخلى .. و قد تعيد جملة ما قالها احد المارة .. او رأيتها على شاشة الإعلان فى الأحياء و الشوارع بذلك اللحن .. أو ربما وجدتها فى صفحة كتاب ملقاة على رصيف مهمل .. أو ربما فى نظرة  لأحد الأصدقاء أو الزملاء .. وربما فى ترحيب بقدوم الصباح .. أو بأمنية النوم الهاديء .. قد لا نعلم متى و أين ؟ لكن هناك حتما وقت ما يذكرك بلحنك الداخلى ..
" شيما أوتا " ذكرتنى بلحنى الداخلى .. و مع لحنها و كلماتها .. إستعدت  ذكريات رحلة متابعة منتظمة للسينما اليابانية ..
فإن كنت غير مستعدا لسماع صوتك الداخلى ، و إن كنت غير باحثا عن ذاتك ، و إن كنت غير مباليا بالتعرف على قواك الكامنة .. لجميع هذه الأسباب .. أنصحك ألا تذهب لعروض السينما اليابانية !!

ملحوظة .. فى هذا الرابط كلمات " شيما أوتا " :)
http://www.nhk.or.jp/j-melo/nhkworld/english/shimauta/lyrics.html
 وفى هذا الرابط .. شاهد الأغنية الساحرة
https://www.youtube.com/watch?v=hyg6Z17DTrg

تعليقات

المشاركات الشائعة