أربعة أيام في هولندا

لأول مرة أسافر و حدي منذ تزوجت و أنجبت اطفالي في مهمة صحفية لهولندا ، إنها نقلة كبيرة نوعا ما للبنت العربية ، و إذا علمتم أنني الصحفية الوحيدة التي كانت هناك من بلد عربي و مسلم ، فهل ستشعرون بمدى الرعب الذي تملكني قبل الرحلة و ؟أثناء الرحلة ، و لو أخبرتكم أن هذه الزيارة هي اول زيارة لي لأوروبا كلها و أحمد الله أنها كانت لهولندا ، لأني بحكم عاطفتي كبنت أحب الزهور ، و أعرف منذ نعومة اظافري ان هولندا هي بلد الزهور و بلد الحرب من اجل البقاء ، لأنها تقع في مستوى منخفض عن سطح البحر ن و قامت بالعديد من المحاولات لإسترجاع أراضيها من المياه ، حتى وصلت إلى حالة تعايش و حب و سلام مع المياه ।
و حقا لا أدري هل ما سأكتبه هنا يستحق عناء القارءة أم لا ، لكنها محاولة لأشارككم و أشارك كل الفتيات العربيات و الشباب العربي مشاعر فتاة عربية مسلمة لمدة أربعة أيام في بلد غربي لا يدين بديانتها ، و لا يعترف بأعرافها فماذا فعلت و ماذا وجدت؟
قبل السفر بساعات ، كانت مشاعر الخوف تتملكني بشدة ، ولأني اؤمن بأن الأطفال هم مجرد أشخاص مثلنا و يستحقون المشاركة في كل كبيرة و صغيرة في كل ما يدور في حياتهم و يؤثر عليها ، فلقد إجتمعت بطفلي و أخبرتهم في هدوء أني سأسافر في رحلة لمدة أربعة أيام لهولدنا في جولة صحفية أتعرف فيها عن قرب بما يفعله هذا البلد من أجل البيئة و من أجل العلم و الإنتفاع به ، و كم كانت فرحتي عندما طلب مني إبني الصغير ذو الأعوام الخمسة أن أقرأ الفاتحة و أتوكل على الله و أسافر ، و كم كانت دهشتي عندما طلبت مني أبنتي ذات العامين و النصف أن أحضر لها الحلوى و أنها تنتظر عودتي محملة بالهدايا وبكل حب وإبتسامة ، و فجأة زال عني الخوف و القلق و تشجعت بفضل أولادي للمهمة القادمة।
في الطائرة جاءت جلستي إلى جوار احد المصريين المقيمين في هولندا منذ أعوام طويلة ، و كان بمثابة المعلم الأول لي عن البلد و طبيعتها ، و أناسها ، و لقد شجعني الحديث معه كثيرا و زال من مخاوفي ।
لكن سكان البلد الهولدنيون أنفسهم كانوا اكبر مصدر للأمان و الإطمئنان ، لأن البسمة المرسومة على وجوههم لا تخبو أبدا ، مهما كنت مسيئا أو مختلفا او غريبا ، إنها بسمة ترحيب ذافيئ ، نفهم نحن العرب معناها و نقدر أصحابها و نبادلهم مثلها و أكثر من الود و الدفء।
جدول الجولة الصحفية كان مشحونا جدا ، لكنه كان معتادا بالنسبة لأهل البلد ، ل، افستيقاظ مبكرا قبل الفجر أحيانا كثيرة هي سمة الهولنديون حتى وإن كان ذلك في الشتاء القارص الممطر على الدوام و حتى وغن كان ذلك يعني ذهابهم إلى العمل في الظلام و عودتهم منه في الظلام أيضا।
وجباتهم الثلاثة مهمة لنا، لأن الفطور و جبتهم الأساسية ، التي يهتمون بها كثيرا ، فهي تحتوي على الفواكه و الخضروات و الألبان و القهوة و العصائر و الجبن و الشاي و البيض و اللحوم و كا،ها وجبة كاملة جدا و دسمة جدا في نفس الوقت ، لكن الغذاء يبدو ضئيلا و سريعا جدا في نفس الوقت لأنه يكون في منتصف يوم عمل طويل و يكون عادة في الظهيرة ، و يتكون من عصير و سندوتش او حساء دافيئ إن لزم الأمر ، في العشاء تأتي الوجبة الرئيسية التي يتناول فيها المرء ما لذ و طاب و كنا نمضي في هذه الوجبة فقط ما يقرب الساعتين حول مناقشة ما تم خلال اليوم و ما مر به من أحداث ، و كنا كمجموعة متنوعة من الصحفيين من شتى الجنسيات نحرص على أن نتناقش في موضوعات نحسبها هامة للممفكرين أمثالنا ، لكنها قد تكون مملة لغيرنا ، المهم أننا كنا نتفق على كل ما هو إنساني وحضاري وعلمي في نفس الوقت ، و إن كانت الجلسة لا تخلو من الدعابة شان كل البشر ।
لقد كان قائد الرحلة متفهما جدا لديانتي و لأنني لا أتناول لحم الخنزير مثلا ، او المسكرات ، و كان دائما يهتم بأن يخبرني بما يصلح لي من أطعمة و ما لا يصلح ।
و بدأت أثق في تفسي ثانية عندما فكرت فقط في عملي الذي أود القيام به ، و لم أعد اشعر بالخوف أو القلق من جديد، ثم الآن وانا أكتب هذه المقالة أشعر بانني كنت طفلة عندما شعرت بهذا القلق ، واعود واقول لنفسي هذا شأن الفتيات العربيات ، بل أبدو شجاعة عندما أعترف لنفسي بمخاوفي و أشجع عندما محوتها بإرادتي و أكثر شجاعة عندما اشارك الجميع فيها و أمحوها عني لأني فتاة عربية।
ربما يبدو على الهولنديين أنهم يعرفون حقيقة الحياة وابعاد الحكمة من وجودها ، لكن الأهم أنهم يدركون ان قيمة وجودهم متعلقة بقيمة بقاء الطبيعة على حالها ، فلقد قالت لي " فيمكا " أحد المسئولين عن برنامج شراكة المياه في هولندا ، أن " المنطقي هو ان يعلم الناس أنه عندما نلوث البيئة بغازات الحتباس الحراري ، فإننا لن نقضي على الأرض ، بل نقدم انفسنا للأرض لتقضي هي علينا "و لقد فكرت كثيرا فيما قالته و وجدت أنها على حق مؤكدا।
نعم فرحلتي كان هدفها الأول هو الحديث عن البيئة و عن كيفية تطويع التكنولوجيا الحديثة من أجل الحفاظ عليه ، و كم أدركت أن مقولة إبدأ بنفسك اولا لم تكن شعارا ، بقدر ما كانت حافزا للهولنديون في القيام بكل هذا الجهد بمنتهى الإخلاص و التفاني و تعلمت الكثير ।
، شاهد مثلا ، العجلات والدراجات التي يقومون بركوبها، ففي الشوارع تجد هذه الدراجات لها طريق خاص جدا و ممهد جدا ، حتى يستطيع سائق العجل المرور فيه، و تحمل الطرق لهم لافتات و إشارت مرور ومرايا تخبرهم بما يوجد في الطريق من خلفهم، و هناك أيضا أماكن مخصصة للوقوف و ركن العجلات بالمجان، و من الطربف انني علمت كذلك أنه اثناء حدوث أية حوادث طرق بين سيارة و عجلة ، فان قائد السيارة يقوم بالصرف المادي على تكاليف علاج سائق العجلات حتى ولو لم يكن هو المخطئ ، و كأن الرسالة الخفية التي يريدون توصيلها للمجتمع لديهم هي : " ان إستخدامك للسيارة يؤذينا و يؤذي البيئة بينما لا يفعل سائق الدراجات هذا الخطأ الفظيع في حقنا "، و من الطريف ايضا ان نعلم أن وزيرة البيئة الهولندية لا تمتلك السيارة الخاصة بها ، وانها لم تركب السيارات إلا بعد أن أصبحت وزيرة للبيئة و هي سيارة الوزارة التي تركبها فقط ، وقبل ذلك كانت تركب الدراجة في الذهاب إلى أعمالها و أشغالها ، او أن تركب حتى المواصلات العامة ، و أهم هذه المواصلات هي الترام أو المترو الذي يقطع البلاد و الشوارع إلى أقرب نقطة يمكن أن تنزل بها و تقطع المسافة الباقية مشيا على الأقدام ، ويعمل الترام بتذكرة ذكية تكفي للتنقل مدة ساعة من الزمن بين أكثر من وسيلة أو داخل الترام ، فقط ينبغي عليك أن تظهر المغنطة أثناء نزولك او صعودك في وسيلة التنقل ।
إنها ثقافة جديدة كانت موجودة في مصر قديما ، و هي ثقافة الحفاظ على البيئة و الحفاظ على الرياضة ، لكن ما يحدث في مجتمعاتنا اليوم ليس بالصحة أو بالحفاظ على البيئة ، و أقول لكم أنظروا إلى القاهرة و شوارعها المزدحمة ليلا و تكدس المرور ، إننا نعيش في رغد حيث يمتلك المنزل الواحد أكثر من سيارة خاصة ، و بينما لم تمتلك و زيرة البيئة الهولندية أية سيارة على الإطلاق ،كما أن السيارة بالفعل هناك رفاهية لا يقدر عليها معظم الشعب الهولندي ।
نعم إنني اغار من اجل بلادي على مصلحة بلادي ، و احمد الله أن الوعي جاء ولو في صورة إعلان يتحدث عن الترشيد و كيف يمكن أن يتشارك أبناء الجيرة الواحدة في طريقهم للعمل ، و هذه صورة إيجابية أذكرها لكم ।
أحد الأشياء التي أسترعت أهتمامي ايضا ، هي الأعشاب التي يضعها الهولنديون على طعامهم ، فيمكنك أن تعلم أنه على الرغم من عدم و جود الكثير من الأعشاب كتلك التي موجودة عندنا مثلا، إلا ان الهولنديون يهتمون بها جدا ، ولقد حدث معي موقف طريف ، عندما كنت أتناول طعامي و تركت الصحن وبه بعض الأعشاب فلقد كانت بالنسبة لي ذات مذاق غريب بعض الشي ، و حضر الجرسون ليأخذ الصحن مني ، و أعطاني نظرة عتاب دون أن يتحدث و لا بكلمة و احد ة قائلا لي بعينيه :ما هذا ؟ لما ذا لم تأكلي الأعشاب ، ؟ و نحن في مصر ، لدينا أعشابا كالكزبرة والكمون و الريحان و البقدونس والفجل و النعناع و غيرها من المذاقات الرائعة حول العالم و لا نهتم بتناولها إطلاقا ، فيا حسرة على الجرجير !!!!
جميع السيارات هنا و وسائل المواصلات تعمل بنظام الGBS و هو الهدف الأساسي لتحقيق أمن تلك البلاد الهادئة ، و كما تزود هذه الطريقة أيضا السيارات ، بخرائط إلكترونية تساعدهم على معرفة الطريق التي يسلكونها و تساعدهم على الحصول على المعاونة قدر الأمكان و قتما يحتاجون أيضا ، و تساعدهم على تحديد الإتجاهات ومعرفة الطريق لأي مكان و لويقطعونه لأول مرة على الإطلاق ।
أنا محظوظة لأنني في أربعة أيام زرت عدة مدن و أماكن أحسبها هامة جدا في هولندا ، منها الحاجز الضخم العملاق لحجز إرتفاع البحر و الريح الشديدة स्टोर्म सुर्गे बर्रिएर
و منها طواحين الهواء المركبة في البحر و المياه ، و منها مشروع الطاقة الزرقاء من المياه و منها مشروع الشرب من الرياح ، و منها مشروع القوارب التي تعمل بالكهرباء الخضراء، و كذلك مشروعات الجامعات و منها جامعة " فاخننين" ، حول نسب الميثان المنبعث من الحيوانات و المواشي، وكيف يمكن الحد من نسب هذه الإنبعاثات
و كذلك مشروع روتردام و التنمية المستدامة من أجل أن تكون هذه المدينة أول مدينة في العالم بدون إنبعاثات ضارة للبيئة ، و كذكل مشروع تنافسي آخر لمدينة أمستردام العاصمة كي تقلل من إنبعاثاتها عن طريق شارع المناخ ، و وسائل النقل التي تعمل بالكهرباء الخضراء ।
لقد دعيت لزيارة احد المنازل العائمة كأحدث تقنية لتملك المنازل في هولندا ، و كنوع من التكيف مع أخطار المستقبل في حالة حدوث فيضان أو إرتفاع منسوب المياه إلى حد كبير ।
و تعلمت من هذه البلد الباردة أن أبتسم و أعمل في هدوء وإتقان دون أن أتذمر من عدم و جود تقدير أو إستحسان ، و كأنهم يذكروننا بقول الله عز وجل " : وقل إعملوا فسيرى الله عملكم و رسوله و المؤمنون " ، و تذكرت قول الشيخ " محمد عبده" ، عندما زار بلاد الفرنجة و قال : لقد شاهدت إسلاما بدون مسلمين ، و هنا شاهدت مسلمين بدون إسلام "، و أقول لكم أنني لم أشعر بغربة لأني تصرفت بالإسلام المعاملة ، و هم لم يشعروا بإختلافي عنهم لأني كنت أتعامل بخلق و روح الإسلام ، فكان أن أصبحنا جميعا بشر مجرد بشر يضحك و يعمل و يمرح و يحزن و يفكر و يبدع دون قيود أو إختلاف.

تعليقات

المشاركات الشائعة