وباء إسمه الإنفلونزا

تبدأ قصتي من إسطنبول عاصمة الإمبراطورية العثمانية في أوائل القرن الثامن عشر ..حيث كان هناك سيدتان مسنتان تمارسان عادة متوارثة لتحصين الناس ضد مرض الجدري و ذلك عن طريق إحداث جروح بسيطة في يد الإنسان السليم ، ثم تقوم السيدتان بعد ذلك بإعطاء كمية من القيح المأخوذ من بثور المرضى المتقيحة ، وكانت هذه العادة معروفة و متداولة لأنهم كانوا يعلمون بخبرتهم أن من أصيب بالجدري و تعافى منه لا يمكن ان تصيبه العدوى مرة ثانية !

لكن ما علاقة قصتي هذه بوباء الإنفلونزا المخيف و المعروف بإسم إنفلونزا الخنازير أو
؟A-h1n1،


أمراض مشتركة بين الإنسان والحيوان:

كان هناك أحد الأطباء الشبان في عام 1770م و كان إسمه" جينر" ،يعيش في بلدة صغيرة إسمها "بيركلي"في إنجلترا ، قد سمع بتلك العادة التي مارستها السيدتان في الدولة العثمانية ، و الأهم أن الملاحظة الدقيقة قادته إلى إكتشاف أن الفلاحين الذين يخالطون الأبقار و يصابون بعدوى جدري البقر لا يصابون بعدوى الجدري البشري، الذي حصد أرواحا كثيرة في تلك الآونة فلقد كان وباءا !، و بدأ أول خيط يربط بين أمراض الإنسان و أمراض الحيوان في الظهور ، فلقد قرر "جينر " التأكد من ان الإصابة بمرض الجدري الذي يصيب الأبقار يمكن أن يقي من الإصابة بمرض الجدري الذي يصيب البشر ،و في يوم 14 مارس 1797 م، أقدم "جاينر" على تجربة خطيرة و تاريخية فلقد لقح صبيا في عمر الثماني سنوات، بنفس الطريقة المتوارثة في الدولة العثمانية قديما حينما إستخدمت السيدتان جروحا مصطنعة و القيح كلقاح ، و لكن "جينر" هذه المرة إستخدم قيح بثور جدري الأبقارالأخف وطأة بدلا من قيح بثور جدري البشر ، و لم يحدث للولد شيئا في الأيام الأولى ، لكن الجلد بدأ في الإحمرار مكان التقيح ثم عانى الولد من حمى وصداع لكنه تعافى من كل شيئ ، وبعد شهرين ، اكمل " جينر " ما بدأه وقام بتلقيح الطفل ببثور جدري البشر هذه المرة ، و ظل ينتظر هل ستنجح التجربة ويكون لقاح جدري البقر هو اللقاح الواقي من جدري البشر، ويساهم المرض الذي يصيب الحيوان لأول مرة في العالم في إكتشاف لقاح واقي ينقذ حياة الإنسان ؟ أم سيموت الطفل بسبب مرض الجدري البشري؟

و جاءت الأيام و مرت الساعات و مرت الأسابيع و لم يحدث شيئ للطفل و ظل معافى فلقد كان البقر نافعا !

لكن القصة لم تنته ، بل كانت بداية للعلماء في فحص وإكتشاف الأمراض المشتركة مابين الحيوان والإنسان و ما يمكن أن يصلح كلقاح من عدمه ، و عرف العلماء ان هناك أكثر من 600 مرض مشترك بين الإنسان والحيوان و أن بعضها فيروسي والآخر بكتيري ، حتى صارت بعض الأمراض المشتركة أوبئة فتاكة .

أوبئة فيروس الإنفلونزا:

سجل العالم إنتشارا للإنفلونزا كوباء عالمي عقب إنتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918م ، وكان ظهورها الأول في إسبانيا لذا سميت بالإنفلونزا الأسبانية و توفى نتيجة هذا المرض أكثر من 22 مليون شخص ، و كانت أسباب الوفاة هي المضاعفات التي نجمت عن الفيروس من إلتهاب رئوي ، وتمدد في القلب ، و هبوط الدورة الدموية، لكن المرة الثانية التي شهدت و باءا للإنفلونزا ، كان عندما إنتشرت الإنفلونزا الآسيوية عام
1957م ، وحصد أرواح ما يتراوح ما بين مليون إلى أربعة ملايين شخص على مستوى العالم، و في عام 1997م ظهرت الأمراض المشتركة بين الإنسان و الحيوان في مقدمة الأحداث من جديد، عندما أعلن عن أول حالة إصابة بفيروس إنفلونزا الطيور و الذي صار معديا للبشر في "هونج كونج"، في عام 2003م ومع عودة الفيروس للظهور تابع العالم حتى يومنا الحالي، في خوف من تطور الفيروس، مع توقعات منظمة الصحة العالمية أنه سيصبح الوباء القادم .
أما فيروس إنفلونزا الخنازير و كاحد الأمراض الحديثة المشتركة أيضا ، فلقد سجل العالم ظهوره لأول مرة في هونج كونج أيضا و في عام 1968م و تفشى المرض هناك ليحصد أرواح مليون شخص !و توالت حالات إعلان ظهور المرض و الإصابة به في الأعوام ؛ 1976م ، 1988م، 2005م في الولايات المتحدة ، ثم عام 2007 م حيث وردت أنباء عن الإصابة في الولايات المتحدة و إسبانيا.

كيف عرفت الفيروسات؟

" أدولف ماير" عالم النباتات ، كان حليف الصدفة إذ كان يبحث و يدرس أسباب مرض نباتات التبغ بمرض غريب يؤدي إلى تبرقش الأوراق و تلونها و كان ذلك عام 1883م ، وبدأ في إستخدام مرشحات خاصة ذات ثقوب متناهية الصغر كي يعزل المادة المسئولة عن المرض ، و إكتشف بالصدفة وجود دقائق أصغر من البكتيريا تسبب المرض حيث لم تفلح مرشحات البكتيريا في إحتجازها ،و توالت الأعوام حتى جاء العالم الروسي " ديمتري إيفانوفسكي" عام 1892م ، الذي نجح في تصفية عصارة نباتات التبغ المصابة بإستخدام مرشحات خاصة لا تسمح للبكتيريا بالمرور ، وعندما مسح بها على أوراق نباتات سليمة أصيبت بالمرض ، فقرر أن يطلق عليها إسم فايروس و التي تعني باللاتينية "السم" .
و بمرور الزمن عرفت البشرية أعجوبة الفيروسات و التي لا يمكن أن نطلق عليها كائن حي أو جماد ، لأن الفيروسات لا تستطيع العيش أو التكاثر إلا داخل خلايا العائل الخاص بها ، و على كل الأحوال فإن الفيروسات في أبسط توصيف لها، تتركب من غطاء خارجي من البروتينات و أحيانا الدهون أوالسكريات ،و يغلف الغطاء في الداخل المادة الوراثية ،و التي يكمن فيها سر إنتشار الفيروس داخل الخلايا الحية .

"الخطر القادم": A-h1n1

أعلنت منظمة الصحة العالمية مؤخرا و وتحديدا في مساء يوم 11- يونيو 2009 حالة الوباء ليصل مؤشرها إلى المرحلة السادسة وفق معدل إنتشار المرض بين أقاليم منظمة الصحة العالمية ، وذلك بسبب عودة فيروس الإنفلونزا القديم إلى الظهور بقوة وشراسة لكنه هذه المرة في صورة مركبة من مقاطع جينية لفيروسات إنفلونزا الطيور و إنفلونزا البشر و مقطعين لإنفلونزا الخنازير و هذا هو سبب التسمية الأولية بإنفلونزا الخنازير ، لكن البعض إقترح تسميته بإنفلونزا المكسيك اسوة بالإسبانية والآسيوية من قبل ، إلا أن الكوارث المتلاحقة على المكسيك جعلت منظمة الصحة العالمية تغير الأسم إلى" إيه- إتش ون إن ون "، فلماذا يشكل هذا المرض الفيروسي كل هذا الخطر ؟
الإجابة تكمن في أعداد المصابين بالمرض، و التي تعدت 30 الف حالة في أكثر من سبعين دولة في العالم و ذلك حتى قت تحرير هذا المقال،(و يمكنك الرجوع عزيزي القارئ إلى موقع منظمة الصحة العالمية و التي خصصت صفحات تشرح كل المعلومات عن الوباء الجديد و عن الوقاية منه واسماء الدول التي حدثت فيها إصابات و أعداد الوفيات و كذلك طرق العدوى و طرق الوقاية)
و ترجع مخاوف المنظمة العالمية إلى أن معظم الناس و خاصة هؤلاء غير المتعاملين بإنتظام مع الخنازير ، ليست لديهم المناعة الكافية لصد هجمات المرض، و لقد أثبتت الحالات المصابة و طرق إنتشار المرض في العالم أن هذا الفيروس يمكن أن ينتقل بين البشر كما يمكن أن ينتقل من الحيوان إلى الإنسان إلا أن ذلك الأخير لم يثبت إطلاقا في الحالات المصابة، و تكمن طرق العدوى به بين البشر في عدة وسائل منها العطس أو السعال أو تلوث الأيدي بالأسطح الملوثة و من ثم تلامسها مع الأنف أو الفم ، أو عن طريق مخالطة الحيوانات المصابة بالمرض.
الخوف الحقيقي سيحدث في الخريف المقبل حيث سيتحور الفيروس من جديد و قد يتحد بفيروسات أخرى مثل فيروسات الإنفلونزا البشرية أو فيروس أنفلونزا الطيور ، وبدلا من وباء واحد معروف يظهر رسول جديد من رسل الله في الأرض ليثير خطرا كبيرا للجميع.

طرق الوقاية :
تكمن الوقاية في ملازمة عادات النظافة الشخصية السليمة و الحفاظ على نظافة الأماكن و الأسطح وتكرار غسيل الأيدي و الوجه طوال الوقت ، و عدم الإختلاط مع المرضى دون وجود أقنعة واقية للأنف و الفم معا ، و عند العطس أو السعال يجب تغطية الأنف والفم بالمناديل حفاظا على الصحة وعدم إنتشار المرض.

وباء الإنفلونزا الحالي إستطاع أن يدخل إلى البيت الأبيض لكنه مر بسلام دون أن يصيب الرئيس الأمريكي الجديد أوباما على الرغم من تواجده في المكسيك و قت ظهور المرض و على الرغم من إصابة أحد المسئولين المرافقين له في رحلته الأخيرة إلا أنه تماثل للشفاء ،

إن تحدي الفيروس الجديد في عام 2009 م هو تحدي لدول العلم في العالم ؟ ترى هل سينجح العالم بكل تكنولوجياته و نظرياته و مختبراته في التصدي للمرض أم سيظل التاريخ المخيف لوباء الإنفلونزا مخيما على الألفية الثالثة؟
سؤال لا أملك الإجابة عليه.
تمت بحمد الله
روناء المصري


تعليقات

المشاركات الشائعة