كادرات من الذاكرة


كادرات من الذاكرة
بقلم / روناء المصري

فى حياة كل منا مجموعة مشاهد ( كادرات ) حفرت فى ذاكرته كألبوم صور .... وحده هو.. يدرك موقف تلك الصور و خلفيتها ، و الأثر الذى تركته فى داخله حينها ..
 و أحيانا .. يأتي الوقت الذى يجد فيه الإنسان ذاته، تعيد تجديد تلك المشاهد للحياة ، و يتمنى فى أوقات أخرى لو أن زمن عمره لم يمضي بعيدا عن إحداها ، أو ظل قريبـا من أخرى ، أو توقف تماما لدى مشهد آخر .. متمنيا ألا يسير الزمن فى إتجاه واحد .. إتجاه اللا عودة!

حياتي ليست بعيدة عن حياة البشر .. فهي واحدة تنتمى إلى مجموعتهم العددية التى تبدأ من مالا نهاية و تنتهي بمالا نهاية أيضا.
و فى حياتي .. مجموعة كادرات من الذاكرة .. كنت آمل أن يتوقف عندها الزمن فلا يمضي..
الكادر الأول/
طفلة صغيرة تبكي ، تكاد لا تظهر من الأرض ، طولها لا يتعدى طول بيادة الجيش التى يرتديها أخوها الكبير فى زيه العسكري عندما كان طالبا بإحدى المدارس العسكرية الثانوية ( نظام تعليمي كان معمولا به قديما فى مصر ) ،بينما يقف ذلك الأخ يبحث عن أخته التى تبكي فى صوت عالي و هو لا يرى أنها تقف تحت أقدامه ، تمنعها يدها الحريرية الصغيرة فى أن تترك أثرا على خشونة البيادة الصلبة أو تجعله يشعر بوجودها .. ثم تستجمع تلك الصغيرة قواها و تتوقف عن البكاء و تقول بصوت قوى .. أنظر إلى الأسفل انا أقف عند قدميك !!
يستجيب الأخ الكبير فى لهفة وينظر ..فيراها .. ثم لا يلبث أن يبتسم فقط ! كانت اخته قزمة فعلا لا تكاد تبين من الأرض بينما يقف هو ممشوق القوام عريض المنكبين .. و ينحني ليحملها فى حنان كبير و يطبع على خدها الصغيرة قبلة و يضمها بقوة و حنان فى آن معا .. فتشعر الطفلة بالأمان .

الكادر الثاني /
 إنه ليس مجرد لعبة عادية ، إنه مصنوع خصيصا لأجلها ، ثم إنه قادم من بلاد الفرنجة على إسمها إنه ( صغير الحصان الإنجليزي – السيسي) لونه بني داكن ، عيناه مبتسمتان ، و فمه وردي ، و شعره كثيف تماما كالحصان الحقيقي ، مع ذيل ناعم ، و ظهر منحني يحمل سرجا مبطنا ، و يمكنه أن يتحول لأرجوحة أو يمضي سريعا على أقدامه المزودة بالعجلات المتحركة .. ثم راودتها تلك الفكرة العبقرية .. و لم لا .. فهي متدفقة الأفكار ، لا تنضب و لا تنفك منها حيلة أبدا ، إلا عندما تقرر ان تتوقف عن المشاركة فى الحياة و النظر إليها من بعيد و كأن الناس دمى تتحرك و الكون مسرح كبير ..المهم .. بادرتها فكرة أن تذهب إلى الحضانة ممتطية جوادها الصغير  وسط الطرقات و اشارات المرور و الزحام ، فهو سيارتها الطبيعية ، و إختارت لتنفيذ تلك المهمة أخاها غير الشقيق الكبير ، و طلبت منه أن يصل حصانها الصغير بدراجته الكبيرة بحيث يمتثل الحصان لأوامر الدراجة فلا ينفصل عنها !
العجيبة .. أن الأخ الأكبر إمتثل لطلبها .. و بالفعل ذهبت الصغيرة ممتطية جوادها البني الداكن الجميل بعجلاته المميزة لتمر عبر شوارع المعادي الخجلة بمنظر إسترعى إنتباه كل السيارات و الدراجات و الأجانب المقيمين هناك ، ورسم على وجوههم إبتسامة صباحية سعيدة ، لكنها لم تعبأ بكل ذلك .. فقط .. إهتمت بأنها عندما وصلت باب حضانتها .. ربتت على رقبة حصانها الصغير و شكرته ، و أهدت اخيها قبلة كبيرة مطوقة عنقه بيديها الصغيرتين .. ثم عاودت الإلتفات إلى السيسي الصغير وعينيها تقول له فى صمت "لقد صنعنا ذكرانا سويا .. انت صديقي .. لم تتركني حتى عند باب مدرستى .. عد إلى المنزل و إنتظرني .. سأعود لأحكي لك أسراري و إنجازاتي الصغيرة فى الدرس". فيمتثل .. ويعود .. ثم يقرر البقاء معها أربعين سنة قبل أن يهرم و ينهزم امام السنون فينكسر ظهره ، لكنها مع العمر لا تزال تحتفظ به بجوارها .. الصديق الصامت الوفي. لم يرفض لها طلبا مجنونا وقتها و قال لها " حاضر" ولكن فى صمت و صبر.
سامبو و القطة /
كان مزاجها مختلفا مع الألعاب و الدمى ، غير أن ليس ثمة لعبة إشتكت من سوء المعاملة أو تعرضت للتكسير أو الخدش أو الإتلاف ، جميعهم كانوا باحسن حال أو ربما فى نفس هيئتهم الجديدة ، القليل من الأطفال من يمتلكون تلك الموهبة ! ، موهبة الحفاظ على دماهم و ألعابهم سليمة و نظيفة و جيدة ، و كانت هي منهم .. غير أن عروستها المفضلة لم تكن فتاة ، كانت فتى أسمر ، أقصد أسود اللون ، أشعث الشعر ، يرتدي (بابيونة) على قميص برتقالي به أزرار سوداء ، و بنطال مقلم باللونين الأحمر و الأسود و فى الوسط حزام رفيع ، عيناه داكنتان ، و فمه احمر صغير ، ليس لديه أنف ، لكنك تشعر بانه مبتسم و أن كل العبير داخله ، و ملمسه قطني طري لكن بدون بدانة !
لم تفترق عنه ، فخشي والداها تعلقها الشديد به ، خاصة عند بداية بلوغها ، فقررا أن يتركاه بعيدا فى دولاب وضعاه على سطح المنزل ، و إمتثلت لأوامرهم خشية أن يكون تعلقها بدميتها مضرة لنموها و دورها كأم مستقبلية .. ثم سكن السطح قطة صغيرة بيضاء ، صارت القطة سببا فى صعود الفتاة إلى السطح ، لرؤية " سامبو" و إطعام القطة فى نفس الوقت ، و يبدو ان القطة عرفت بمكانة سامبو لدى الفتاة ، فكانت تلهو معه فى وحدته ، و لم تعترض الفتاة فقد فضلت أن يجد سامبو ونيسا عن أن يعيش حياة العزلة ، حتى جاءت القطة تحمل فى احشائها قطط صغيرة و ظلت ليوم كامل تئن لتضعهم ، و منعت الأم الفتاة من أن تصعد للقطة فقد كانت تخشى ألا تتحمل فتاتها مشهد ولادة القطة ، و لم يتبق أمام القطة سوى سامبو ، فافترشته وسادة لولادة صغارها ، و بات سامبو منهكا تماما و مغطى بالدماء ، و هو يقبع تحت القطط الصغيرة حديثة الولادة ، و فى عفوية مدت الفتاة يدها لتنقذه و تنظفه ، فما كان من الأم إلا أن أسرعت لتحمله بعيدا خارج المنزل و يضيع وسط القمامة ، و تفقد الفتاة " سامبو" كما فقدته تلك القطة التى إستعانت به فى إستقبال أولادها للحياة!
الكادر الرابع / كان لا يزال أمام عرس الأخت الكبيرة أسبوعا بأكمله ، و فى غرفة الأخت ، أشياء كثيرة براقة تدخل و تختفي بالداخل ، و لا بسمح لأحد أن يراها ، خاصة من صغار السن .. فكانت الغرفة بالنسبة لي بمثاية مغارة سحرية براقة و مغامرة تنتظر مني دخولها ، و كنت فقط أتحين الفرصة لذلك .. و ها هي قد حانت .. كان أبي ماهرا فى حياكة و تطريز الملابس و كيف لا و له علامته التجارية المميزة بإسمه ، و كان قد إنتهى للتو من إضافة لمسات على " طرحة " اختى تجعلها مميزة للغاية فقد أضاف لها "برودريه" و " كرانيش مزخرفة " تجعلها تنافس طول ذيل الفستان بسهولة ، ثم رصعها بمجموعة منتقاة من الاحجار البراقة من الكوارتز فأصبحت فى ذلك الوقت تحفة فنية لا تنافس .. و كانت اختى داخل غرفتها ، فتطوعت أن أنقل إليها تحفة أبي الفنية ( فرصتي فى المراقبةعن كثب لما يحدث بالداخل J) و دخلت .. كانت تجلس امام مرآتها و امامها ألوان براقة من المكياج ، علب مزدانة كثيرة ، وعطور من ماركات عالمية كثيرة ، و طاقم للعناية بالأظافر ، و طلاء الأظافر من الوان عديدة جميعها تشد العين و القلب معا !، ثم كان هناك مصفف الشعر الماهر الذي حضر خصيصا لأن أبي دعاه ، و لم يكن يستطيع أحد أن يعترض على دعوة أبي إياه ، ثم رآني و إبتسم و قال لي هل تودين تصفيف شعرك ؟ فوافقت على الفور !!
فأمسكه وصفف لي شعري على طريقة " ماري أنطوانيت " ( نوع من التصفيفات الشهيرة قديما حيث يلتف فيها الشعر فى هيئة إسطوانية فى خصل متكررة ) غير أن هذا المصفف جعله يبدو مناسبا لسني ويبدو ان خصلات شعري الداكنة منحته الفرصة لذلك بسهولة ، و أمسكت أختي بأدوات تجميلها ترسم على شفتاي و عيناي خطوطا حاسمة تبين رسوماتها و منحنياتها ، ثم ختمت ذلك بوردتين على خدي و حديث قلبي السعيد يغرد من أول ( تجميل ) يزور وجهي .. ثم شاركت فى وضع ( الطرحة ) على شعرها ، و إختيار موضع التاج .. لتخرج العروس بعد ذلك فى كامل أناقتها .. و انا أشعر بالفخر .. لقد شاركت فى تجميلها .. ثم ما لبث أن مررت بمرآة .. فرأيت وجهي المزدان بالألوان .. فقررت إزالتها على الفور ! و إنتهت المغامرة .

الكادر الخامس / أنا أهوي الرقص .. تحملني النغمات بعيدا بعيدا لأتمايل معها دون سابق تصميم أو تفكير ، لكن إيقاعاتي منضبطة مع الموسيقى ، فقلت لنفسي ، إذن أنا أهوى الموسيقى ! غير أن رقصاتي و حديثي مع الموسيقى كان حبيس غرفتي فقط ، ثم أنني أهوى الغناء ، بيد أن الغناء فى المنزل له موضعين إثنين فقط .. إما أمام صنبور المياه حين أنظف الصحون ، أو عندما أنظف جسدي فى الحمام ، و مع مرور الوقت إمتنعت عن التغريد فى الحمام ، لأكتفي فقط بالتغريد مع صوت المياه أمام الصنبور ، و إحتفظت حجرتي بسر رقصاتي ، التى أحيانا ما كنت أتدرب فيها على حركات أعجبتني من حركات الرقص على الأغاني ، أو أبتكر فيها حركاتي الخاصة بغية إثبات رشاقتي لنفسي . و مرت الأيام على هذا الحال حتى وردتنا دعوة لفرح احد أقاربي ، قرر الزواج من فتاة إفريقية ، و حرصا على سعادة العروس أحضر فرقة إفريقية للعزف و الرقص .. ظل الحضور يرقص على النغمات الشرقية المعروفة ، و الغربية أحيانا و هي أيضا معروفة ، لكن عندما بدأت الموسيقى الأفريقية فى العزف لم يكن هناك سوى الراقص الإفريقي على المسرح و شعرت بان الكهرباء تسري فى الجو ، فقررت ان أنهي شحناتها السلبية بمشاركتي المتواضعة فى الرقص لأول مرة امام الناس . و رقصت امام الراقص الإفريقي .. هل ذكرت أني أجيد قراءة أجساد البشر كذلك ؟؟ حسنا !! لقد كان هذا هو الحال ، أستمتعت بالإيقاع غير أني أجدت قراءة جسد الراقص ، فقابلته بأداء متناغم ، ومرت الرقصة الأولي ، و الثانية ، و الثالثة ، ثم أردت ان أذهب لطاولتي ، لكني فوجئت بالفرقة الإفريقية و الحضور يطلبون مني الإستمرار ، فأكملت الرقصة الرابعة و الخامسة و السادسة ،، ،، مرت ساعة كاملة و أنا أرقص ، لم ينقذني منها إلا شرارة عين والدتي و والدي و هما ينظران إلي .. متى أنتهي ؟!! فقررت العودة و الإنسحاب .

ساعات الفطور مع أمي !
لوالدتي عينان خضراواتان ، لهما بريق يشبه بريق الزمرد ! و شقاوة تطل من خلفهما ، تختلف درجة إخضرار عيناها كلما تغيرت نفسيتها ، فكنت أطل عليهما لأعرف كيف تشعر تلك الأنثى الرقيقة جدا ، و الحنونة جدا ، ثم أحاول أن أعيد لهما بريق الزمرد ، و كانت شحناتنا اليومية المتجددة من حب الأم و إبنتها تأتي فى الصباح الباكر ، تحديدا عندما نجلس لتناول الفطور الذى كان يمتد لساعات أحيانا !! ليس بغرض تناول الطعام طبعا ، و إنما بغرض تجاذب أطراف الحديث ..
 كانت أمي تعشق كل ما هو لونه أخضر ، و كل ما هو طازج ، و كل ما هو فاتح اللون ، و كل ما هو صغير الحجم ، و كل ما هو طبيعي المصدر ، فإذا عرفت هذه التركيبة العجيبة كنت أكثر مهارة فى إختيار مكونات وجبة الإفطار ثم الأحاديث التى تليها كانت تأتي بالفطرة وحدها .. و كنا أنا وهي من هواة الإستيقاظ باكرا، خاصة مع ساعات الشروق الأولي فللشمس حضور مهيب يمنح العقل و الروح بشاشة و أملا فى يوم جديد و طاقة متجددة دوما ! فكانت ساعات فطورنا هي إمتدادا لطاقة الشمس الطبيعية ، و لطاقة الطبيعة ، و لطاقة الحب الأموي البنوي الذى لا يحمل غرضا أو تشوبه مصلحة أو يغضبه حدث أو تؤثر به إنانية و حب ذات ، كلانا كان يحب الأخر أكثر من ذاته و كلانا كنا روح واحدة فى جسدين .. حتى فارقتني بجسدها ، فحرمت من ساعات فطور الصباح الباكر ، لكني لم أحرم من روحها .
(كادر كنت أتمنى لو توقف الزمن عنده فلم يمضي أبدا !)
 الكادر السابع /
كنت قد بدأت أستجمع قوايا بعد الوضع و تماثل إبني الأكبر للشفاء ، بينما كانت مولودتي الحديثة تستجمع قواها هي الأخرى ، و كيف لا فقد خرجت على مسؤليتي الشخصية من المشفى حتى أعتني بطفلي الأول إبني الذى كان قد أصابه إعياء شديد ، و قد أصبح مهددا بالإحتجاز فى المشفى هو الأخر ، غير أنه سيكون فى مشفى أخر مختلف عن المشفى الذى وضعت فيه إخته الصغيرة ، فقررت أن أعتني به ، كان الطبيب قد أمهلني مدة 48 ساعة بعدها سيتم إحتجاز طفلي شئت أم أبيت ، و كان يشك كثيرا فى أن تلك السيدة التى لم يمر على ولادتها يوم بكل مضاعفاتها الصحية قادرة على أن تعتني برضيع حديث الولادة و طفل يحتاج لإهتمام خاص و عناية كل ساعتين مع محاليل و أدوية و تغذية ، ناهيك عن صحتي الشخصية ، و صحة الرضيعة و طلباتها ، لكن الله عز وجل لم يتركني وحيدة ، فأحل بركته و ستره علي ، ليتماثل إبني للشفاء رويدا ، و تبدأ صغيرتي فى الإستقرار صحيا ، و أحاول أن أتنفس الصعداء لأستعيد جزءا من صحتي !
 وقتها لم أدرك ان هناك تقصيرا من قبل الزوج ، الوالد ، الذى كان فى العمل و لم يكن يحضر للمنزل ,, لكني أدركت أن التصرف الطبيعي كان يحتم عليه أن يرتب أولوياته جيدا فيدرك أنه كاد ليفقد ثلاثتنا لولا أن تداركتنا رحمة الله و نعمته علينا !
ومضت بنا الأيام نستجمع فيها قوانا من جديد .. و كانت خطتي فى التربية هي أن يرتبط الأخ باخته الصغرى فيخاف عليها و لا يشعر أنها جاءت لتحرمه من الإهتمام  والحب الذى كان ينعم به ، و لكي أفعل ذلك ، شاركته فى مسؤليتها ، فهو معي عندما نغير ملابسها ، و أو عندما نقوم بتحميمها ، أو عندما نقوم بإطعامها ، وحده هو من يسمح للغير بحملها أو لا يسمح ، و حده هو من يخبرني بتطورات حالتها ، و قد أقرر أن يقوم هو بالتصرف أو قد أتدخل أنا ، ثم  خصصت له اوقات من اليوم يقوم هو بإطعامها بيده و خصصت له أدوات إطعامها من زجاجة الإرضاع ، و مواد الإرضاع و المياه النقية ، و كنت أشاركه فى كل تخطيطاتنا ، ثم ألعب معه  و أتحدث معه ، ثم أسأله عن الأنسب لها ؟ و يبدو أني نجحت فى خلق هذا الرابط الخاص جدا بينهما ..
فى هذا الكادر .. سأتوقف عند مشهد عربة الطفل التى كان يجرها اخوها ليحمل طفلته على مراقبة مشهدين .. أولهما شروق الشمس ، و ثانيهما غروب الشمس ، ثم يدندن لها لتنام و انا أراقبهما سويا .. ( كادر .. أدعو الله ألا يحرمني منه و لا من محبتهما و لا من قلبيهما معا )
تمت بحمد الله




تعليقات

المشاركات الشائعة