serendipity - الصدفة


الصدفة 

قصة و سيناريو و حوار / روناء المصرى

بدأ النشر فى 17 يوليو 2020م 

فى عالم مليء بالإندماجات العملاقة و الأسهم المترنحة ما بين صعود و هبوط ، أصبح واقعا أن تعيش جنسيات مختلفة على نفس البقعة و أن تتلاقى وجوها لم تكن لتتلاقى لولا السعى وراء لقمة العيش أو المحاربة بإتجاه نفس الهدف ، لم يعد للجنس فرق الكل أصبح تحت مطرقة و سندان الحياة معا سواء أكان ذكرا أو أنثى .. و من منطلق هذا الواقع نسجت خيوط هذه القصة بأحداثها المثيرة ..

2027 م - الساعة السادسة صباحا
 فى إحدى المدن العربية و بسبب إزدحام المرور و تماشيا مع الموضة .. خصص مجلس المدينة حافلات لنقل السيدات بأجرة متوسطة و أخرى بأجر باهظ حسب نوع الخدمة المقدمة و جعلت طلائها باللون الوردى تمييزا لها عن باقى خطوط الخدمة ، لكن مواعيد هذه الحافلات غير متاحة عبر اليوم نظرا لطول المسافات التى تطرقها ذهابا و إيابا و قلة عدد الحافلات المخصصة .. لذا فهناك حافلة فى تمام الساعة السادسة صباحا كل يوم ذات خدمة مميزة ، و أخرى فى تمام الساعة السادسة و عشر دقائق ذات خدمة إقتصادية .. ثم يحين موعد الحافلة التالى فى منتصف النهار تماما بفارق عشر دقائق أيضا بين الحافلة  المميزة و الإقتصادية ، ثم فى تمام الساعة السادسة مساء بنفس فارق التوقيت ، ثم الثانية عشر منتصف الليل بنفس فارق التوقيت بينهما ..
و فى أول أيام عام 2027م ، كانت الحافلات مستمرة فى العمل على الرغم من الأعياد و الإحتفالات برأس السنة الجديدة لكن ركابها كانوا محدودي العدد ، إقتصروا فقط على هؤلاء الذين جاء دورهم فى تولى فترة العمل فى الإجازة و الدوام حتى عودة الجميع من إجازاتهم .. أنهم فريق مسيروا العمل أو ما أفضل تسميته ب ( المنجزون) !
 فى تمام الساعة السادسة صباحا حان موعد حافلة الخدمة المميزة  ، و نظرا للإجازات و مخلفات سهرة ليلة رأس السنة ، قرر السائق أن يبقى حتى موعد السادسة و عشر دقائق أى لحين حضور حافلة الخدمة الإقتصادية حتى يتأكد من أن هناك بديل لنقل الركاب فى حال تأخرهم عن اللحاق بحافلته ، و ظل باب الحافلة مفتوحا .. دون أن يحضر أحد !
فى تمام الساعة السادسة و عشر دقائق لمح السائق فى مرآته الحافلة الإقتصادية تأتى من بعيد لمحطة الركوب ، فقرر أن يترك لها الرصيف و رحل فى هدوء ..و مع إقتراب الحافلة الإقتصادية .. كان هناك سبع سيدات  من جنسيات مختلفة يحاولن الإسراع للوصول إلى المحطة .. و يبدو ان عليهن عبور الطريق السريع بدلا من إستخدام سلم المشاة العلوى حتى لا يفوتن فرصة اللحاق بالحافلة الإقتصادية ، لكن مع هذا كان القرار بينهن مختلفا ، ما بينهن الشقراء ذات البنية الرياضية التى قررت الركض أعلى سلم المشاة  بمصاحبة صديقتها ذات الشعر الأحمر و اللكنة الفرنسية ، و بين تلك السمراء التى وقفت تتحين الفرصة لعبور الشارع ، و بين تلك العربية التى ترتدى عباءة سوداء فى تردد أى الطريقين عليها عبوره و الهندية التى أخذت بيديها ليعبران الطريق سويا، و بين تلك الأسيوية التى أستلهمت سلم المشاة من سابقتها الشقراء و ذات الشعر الأحمر ولكن بعد أن أستغرقها التفكير العميق بعض الوقت!
أما القمحية اللون كانت أول من إتخذت الخطوة الأولى فى عبور الشارع لتسبق السمراء و العربية و الهندية إلى حيث ستصل الحافلة.
دقائق مرت لكن فى نهاية المطاف الجميع وصل إلى بوابة الحافلة ، بعضهن وصل قبيل إغلاق الباب و الإنطلاق نحو الطريق .. و إنطلقت الحافلة   .. الشقراء " سوزان – آن " من أمريكا ، معتادة على التدخين و لكن فى الحافلة الإقتصادية لا مكان لهذا ، و السمراء "جيمايما" من كينيا ، تحيك فى هدوء صوف إبنتها المحتملة الوصول خلال أربعة أشهر من الأن ، لذا لن يكون هناك فرق بالنسبة لها فلديها ما يشغلها عبر الطريق ، و الأسيوية "كيم أون أوك" ، من كوريا الجنوبية، تفضل أنتستمع إلى الموسيقى أثناء قرائتها لكتابها الجديد ، بينما العربية "سميرة " من الإمارات فتفضل تصفح بريدها الإليكترونى و مراجعة ملفات العمل أثناء طريقها غير أن خدمة الواى فاى غير موجودة على متن الحافلة الإقتصادية ، و القمحاوية" أنيتا" من المكسيك تتناول فطورها فى تلذذ غير عابئة بما يحدث حولها، و يبدو أن الهندية " بريانكا " ستكمل وضع مكياجها و إرتداء أكسسواراتها المتناسقة مع ذلك السارى الهندى، وذات الشعر الأحمر "مرجريت" من فرنسا تعتاد على أن تتناول قهوتها على متن الحافلة لكن هذا غير متاح الأن لذا تشعر بالضيق.
تبدو الحافلة الإقتصادية وهى تحمل هذه الجنسيات السبع  و كأنها تابعة لإحدى برامج الأمم المتحدة الإنمائية ، غير أنها فى الواقع حافلة محلية قومية تعمل على خدمة مواطنى تلك المدينة العربية بتواضع و دون النظر إلى خلفياتهم العرقية أو إلى دياناتهم .
فى أذهان سيداتنا السبعة ربما توجد فكرة واحدة إتفقن عليها سرا و دون ان يعرفن بذلك صراحة ، و هى أن هذه الحافلة لا ترقى لمتطلباتهن كتعويض للذهاب للعمل فى أول يوم فى العام الجديد .
و فى نفس الوقت إتفقن على أن الدقائق تمضى ببطء عندما يعملن فى يوم عطلة رسمية فى البلاد ، فبداخل كل واحدة منهن حلما تاقت نفسها لتحقيقه فى الإستمتاع بالإحتفال بأول يوم فى العام مع أسرهن أو مع من يحببن ، غير أن ذلك بات حلما صعب المنال فى تلك الساعة من النهارو فى ذلك التوقيت حيث يمضين فى الطريق للدوام الرسمى .. و لغرابة القدر أنه لم تربط بين هذه السيدات سابق معرفة على الرغم من أنهن يعملن لنفس الشركة متعددة الجنسيات الدولية المعروفة  فى مجال التعليم و الإعلام و الدعاية ، و ذلك بسبب أنهن يعملن فى أقسام مختلفة منها ، و لأن الشركة تحتل احد ناطحات السحاب العملاقة فى أكثر من عشرين طابقا  خصصت لها وحدها ، بات من ضعيف الإحتمالات أن يتقابلن صدفة حتى ولو فى احد المصاعد من بين العشرين مصعدا الموجودين داخل تلك الشركة ، و ربما تقابلن فى إحداها مرة و لكن مع إزدحام الركاب بالمصعد قد لا ترى أى منهن الأخرى.

إن لقاؤهن فى هذا اليوم و تلك الحافلة ربما يكون من قبيل الصدفة أو من تدابير القدر !!  يقال إن حياة الإنسان عبارة عن دائرة يمضى فيها و أن هذه الدائرة تتحرك فى مستويات و أبعاد مختلفة حاملة حياة ذلك الشخص معها ، لذا قد تتقاطع بعض الدوائر و قد يتماس بعضها البعض ، و ما يصنع فرق الأحداث فى حياتنا هو ذلك التماس أو التقاطع مع دوائر حياة الأخرين ..و بهذا ننتقل فى الحياة من مرتبة لأخرى ، و نتعلم من التجارب و المواقف و الظروف و الأقدار!
تختلف ثقافات هؤلاء النسوة السبع بطبيعة الحال بسبب إختلاف أجناسهم ، كما تختلف لغاتهم و ألسنتهم ، و ليس بشرتهم فقط ، غير أنه من المعتاد الحديث باللغة الأنجليزية فى هذه المدينة لذا ربما لن يكون هناك عائق اللغة فى التواصل فيما بينهن إن لزم الأمر.
صعدت كل واحدة منهن مستخدمات بطاقة المرور الخاصة بإشتراكات الحافلة ، و حرصن على ألا يجلسن بجوار بعضهن البعض ، فتناثرن وسط مقاعد الحافلة الفارغة ، ثم ما لبثن أن قمن بفتح النوافذ معا ، فأصدر ذلك ضجيجا إسترعى إنتباه السائق و يبدو أنه إندهش من توقيتهن المثالى و زمنهن فى فتح النوافذ حتى يكون الصوت منضبطا إلى هذا الحد و كأنهن تدربن عليه مرارا قبل ذلك،
 و فى نفسه همس :( ربما هن فريق ما أو و ربما شيء ما يثير نفوسهن! و لكن لم أبالى ؟!) ، ثم ما لبث أن أخذ ينظر فى ساعته ليبدأ فى إدارة محرك الحافلة و السير فى الطريق.

إحدى ميزات العمل فى العطلات فى الوقت المبكر تحديدا هو أن الشوارع و الطرقات تكون خالية و بالتالى بإمكان السيارات و الحافلات السير فى سرعة معقولة بدون المعاناة من الزحام أو معاكسات الطريق من السائقين الأخرين .. و بالنسبة لسائق حافلتنا الإقتصادية فقد شعر وقتها بانه ملك الطريق ! و لم لا ؟ هو يقود حافلة كبيرة و ضخمة و كأنها مملكته الخاصة و الطريق أماما مفتوح بلا منافس و كأن الرصيف حرسا خاصا يؤمن رحلته .. و يبدو أن خيالاته تلك أعجبته فإبتسم و شعر بالزهو !
الرحلة فى المعتاد فى الأيام العادية تستغرق قرابة النصف ساعة من موقف الحافلة و حتى موقع الشركة و لكن لأن الطريق خالى فربما يكون هناك توفير فى الوقت و قد تنتهى الرحلة بالوصول إلى الشركة خلال خمسة عشر دقيقة فقط .. و ذلك بسبب وجود ثلاث إشارات للمرور خلال الطريق .. مرت الحافلة بأولها و كانت خضراء اللون ، و ظل امامها إشارتان اولاهما عند هذا المنعطف القادم يمينا ، و الثالثة قبيل مقر الشركة فى مجمع الشركات و رجال الأعمال .. و عند الإشارة الثانية ، ظهرت سيارة كبيرة من سيارات نقل الأثاث ، تقف منتظرة الإشارة الحمراء ، فتقدم سائق الحافلة بحذر إلى جوارها ليقف هو الأخر منتظرا أن تتحول الإشارة للون الأخضر ، و حانت منه إلتفاتة إلى سائق سيارة نقل الأثاث بجواره ، فبادره الأخر بتحية باردة ، أومأ سائق الحافلة رأسه للتحية .. ثم ما لبثت أن تحولت الإشارة للون الأخضر ، فسارعت سيارة نقل الأثاث مسرعة تتخطى الأشارة فى الوقت الذى كان سائق الحافلة يجهز للتحرك ، و تعجب من طريقته العنيفة فى السير خاصة و أن الطرق خالية ! و إختفت سيارة نقل الأثاث عن النظر فى الطريق ..
و مضى الطريق و مضت الحافلة .. و إقتربت من الأشارة الثالثة و الأخيرة قبل مجمع الشركات و رجال الأعمال  ، و لكنها كانت حمراء اللون أيضا ، فتوقفت الحافلة .. و بينما ينظر السائق إلى الثوانى وهى تمضى فى الإشارة .. فوجيء بصوت عنيف يصدر من مؤخرة حافلته و تسبب فى إهتزاز الحافلة بشدة ، حتى إن سيداتنا السبعة تأوهن بسبب تلك الهزة العنيفة ، فنظر عبر المرآة لكنه لم ير شيئا ، فقرر النزول من الحافلة لإختبار الموقف ، و إستأذن من الراكبات ..
لم تمض سوى 20 ثانية فقط ، عاد بعدها شخص أخر إلى الحافلة ، ليعلن أن السائق وجد عطبا فى الحافلة ، وقرر أن يعود إلى الشركة لإصلاح العطب ، و يعتذر للراكبات عن ذلك .. ثم نزل مرة أخرى ! و سط ذهول الجميع ..
و بدافع الفضول إتجهت السيدات السبعة إلى المقعد الخلفى للحافلة ، و لم يجدن السائق و لم يجدن احدا ؟
بادرت ( سوزان – آن) : ما هذاا ؟ سوف أتأخر مع أنى إقتربت من مقر الشركة كثيرا ؟ ترى كم سيتغرق من الوقت للعودة ؟
(مرجريت): و لكن أتساءل كيف عثر على وسيلة مواصلات و الشارع فارغ تماما من السيارات ؟
(كيم أونوك ): من هذا الشخص الذى جاء يحدثنا ؟أين كان ؟هل هو زميله؟
بينما إكتفت ( أنيتا ) و ( سميرة) و ( جيمايما ) بالنظر إلى بعضهن البعض فى هدوء  وساور الجميع القلق ..و أخذن ينظرن إلى الشارع من النافذة الخلفية للحافلة ، و فجأة سمعن صوت إغلاق باب الحافلة ،فإلتفتن ليجدن شخصا ثالثا يتخذ مقعده خلف كرسى القيادة ، و لم يلبث سوى دقائق حتى بدأت الحافلة فى التحرك من جديد ،  فعدن إلى مقاعدهن ..
و عند مدخل مجمع الشركات ، أسرعت الحافلة بدلا من أن تبطيء ، فوقفت السيدات  تصرخ فى السائق الجديد ..
 السيدات: سيدى ! هذه محطة توقف للحافلة .
          : سيدى ! أرجو إيقاف الحافلة .
          : سيدى! هذه محطة نزولى.
          : سيدى! و أنا أيضا أريد النزول هذه محطتى أنا أيضا.
          : سيدى ! و أنا أيضا أود النزول.
السيدات فى صوت واحد: سيدى ! أوقف الحافلة ! ما الذى تفعله ؟ نحن نريد النزول هنا !!
إلتفت إليهن السائق ببرود و أجاب: أنا أعرف تحديدا أين ستنزلون جميعا ، فأرجو منكن سيداتى إلتزام الهدوء و الجلوس فى مقاعدكن منعأ لإصابتكن بمكروه ..
كانت هذه الجملة بمثابة صدمة للجميع .. ففتحن فاههن فى ذهول ...

 ثم ما لبثت "بريانكا" فى الخروج من حالة الذهول و نطقت : هل خطفنا ؟
نحن مخطوفات!! نحن مخطوفات !!؟؟ و أخذت تردد ذلك بصوت عالى و كأنها تصرخ عاليا ..

فتهالكت "جيمايما " متحسسة بطنها ووليدها فى خوف و هلع على أحد المقاعد ، بينما صرخت "سميرة "و أجهشت بالبكاء .. ثم أسرعت هى و "سوزان" إلى ضغط زر فتح الباب  الخلفى ، بينما أسرعت "مرجريت" و "أنيتا" يحاولن الضغط على زر فتح الباب الموجود فى عمود الحافلة ..و يبدو ان محاولتهن باءت بالفشل فقد كان الأمر متوقعا و مرتبا .. لم تعمل هذه الأزرار و لم يفتح الباب ..

أمسك السائق الجديد بالميكروفون  و تحدث: سيداتى !! بالفعل أنتم مخطوفات أهنئكن على ذكائكن ! الأبواب موصدة و لن تخرجوا من الحافلة حتى لو قفزتم من النوافذ الصغيرة ، لذا أرجو العودة للمقاعد حتى أوصلكم إلى وجهتكم المحددة .

سارعت السيدات إلى النوافذ ، و بينما لا تزال الحافلة تسير .. صاحت كل واحدة منهن بلهجتها القومية .. أنقذوووووونننناااااا !

يتبع ...

المشاركات الشائعة