نار تحترق

إنه يوم جديد !
 تبدو الشمس متألقة فى ثوبها الذهبى هذا الصباح ، بينما السحب تتراجع فى غلالات رقيقة لتختفى فى زرقة السماء ، و مرت الساعات ، لا أدرى كم من الوقت مر تحديدا ، لكنى تمسكت بمتابعة حلة الشمس الذهبية و السماء الزرقاء و ذلك الحديث الهامس بين الغلالات البيضاء و الوقت الذى تستغرقه للتتوارى ، لم يوقظنى من تأملاتى إلا صوت مذياع المحطة ينادى بوصول رحلة القطار التى أنتظرها بفارغ الصبر ، فلقد كنت فى إنتظار قدوم أولادى من الخارج , إنها أول مرة أفارقهم و أبعد عنهم كل هذه المدة ، لكنى قررت أن تلك المجازفة لصالحهم ، فمن تلك الأم التى تمنع أولادها من تلقى منحة دراسية فى الخارج لمدة شهرين؟
لم تكن أنا بأى حال من الأحوال ..
 و رأيت القطار يدخل إلى الرصيف ، أنا داخل المحطة حيث أنتهى البناء و توحدت السماء بعمارة المحطة الحديثة ، لقد أضافوا الكثير من الزجاج الملون و المزخرف إلى أسقف المحطة و جوانبها ، فزاد ذلك من بهاء أشعة الشمس ، و أبدت إبتسامتى فرحة خفية إنضمت إلى دقات قلبى المنتظر ... و توقف القطار ..
 أبحث فى الوجوه عن وجهاى الصغيران ... أين هما  و سط هذا الكوم المتلاحق من البشر ؟
آه بالتأكيد سيكون هناك لافتة تحمل إسم البعثة و  هناك أيضا مشرفين مخصصين لمحاوطتهم عند النزول و لـتأمين سلامة وصولهم إلى ذويهم ، و قفت أتأمل من حولى لعلى أجد أحد الأمهات مثلى تنتظر .. و بالفعل عثرت على واحدة ، فقررت أن أنضم إليها حتى أجد من يشجعنى على إنقضاء الوقت المتبقى فى الإنتظار ... و بادرت بالحديث :
- مرحبا ! هل أنتى ولية أمر مثلى لبعثة المدارس ؟
ردت بإبتسامة حذرة : " نعم "!
- قلت : هذا هو القطار المتوقع وصولهم فيه؟
- قالت : نعم هو القطار ، وهذا هو الرصيف !، ثم ظلت تحرك عينيها فى الركاب ،  ثم إلتفتت إلى و قالت : ما رأيك فى أن نتقدم قليلا حتى نرى القادمين من الخلف ، فلعلهم قد حجزوا لهم عربة كاملة خاصة بهم ؟!
 قلت : حسنا !
 و بدأنا نتقدم ... و لم تكن سوى بضع خطوات حتى إلتقت السيدة بإبنها الذى تنتظره ، و ألتفتت إلى لتقدمه لى ، و تمنت لى حظا موفقا ، و غادرت..
 تابعتها بنظرى وهى تعبر الرصيف للخروج من المحطة و فى يدها يد الصغير و تبدو عليهما علامات السعادة .. ، و خطر ببالى كيف سأعانق صغيراى ؟ كيف سأجرى نحوهم ؟ و كيق سنقدم عرضا منفردا داخل المحطة عند عناقنا ، فلقد إفتقدتهم كثيرا ، و بالتأكيد إفتقدونى كذلك !
 لم تكن علاقتى بهم علاقة أم بأبنائها ، أقصد لم تكن علاقة عادية .. كل ما يغلفها الواجبات أو التعنيف أو الأوامر أو التربية ، كنت أعاملهم كمستشارى فى الحياة ، أخذ برأيهم كما يأخذون برأييى ، و كنت صديقة لهم ، عندما ألهو معهم يتراءى لك أنى طفلة صغيرة لا يتعدى عمرها الثمانى سنوات ، و عندما نغضب سويا تحسبنى فى عمر الثلاث سنوات ، و إذا ضحكنا  إضطظربت أمواج البحار و المحيطات من فرحتنا ... كم أفتقدهم !
 لم أكن أحسب أن ستين يوما ستكون طويلة كذلك ، و لكنها مرت اليوم و الآن على أن أنتظر بضع دقائق أخرى حتى أضمهم إلى ذراعاى...
مضت الدقائق أطول من السنوات ... و بدأ الرصيف يخلو من المارة و الركاب ، لأول مرة أجد رصيف محطة القطار شبه خال إلى هذا الحد ....
كان من السهل عندها أن أتقدم إلى عربات أخرى للأمام ، بحثا عن صغيراى ....و مشيت ... و قلبى يسبق خطواتى ، إنه يسرع أكثر منى ، لدرجة أنى ما عدت أستطيع اللحاق به ...
 و بعد فترة لا أعلم مقدارها ، سمعت صوتا ينادينى من الخلف : " سيدة دينا " !
 إلتفتت مسرعة و نظرت إلى مصدر الصوت ، لقد عرفته ، إنه أحد مشرفى مدرسة أولادى ، يبدو أنه كان مصاحبا لهم فى الرحلة للخارج . إستدرت للحديث معه ،  و قلت لنفسى : هذا جيد ! أخيرا وجدت من أسأله و يستطيع ان يدلنى على أولادى !
قلت له : مرحبا أستاذ ناصر ! حمدا على سلامة الوصول
قال: شكرا لك ، و لكن ماذا تفعلين هنا؟
قلت بإستغراب : لعلك تعرف أن أولادى كانوا بصحبتكم فى رحلتكم للخارج، و أنا هنا بإنتظار عودتهم!
قال مستغربا : و لكن أولادك لم يذهبوا معنا للرحلة ، فقد ألغى سفرهم بناءا على طلب والدهم  ،  لقد قال لنا أنه إتفق معك على ذلك !
 أليس صحيحا ؟!
 توقفت الكلمات فى حلقى .. بل توقف عقلى بأكمله عن التفكير ....و فجأة خطر على بالى أنه ربما لا يعرف أولادى جيدا ، نعم يبدو أن المدرس إختلط عليه الأمر ، فتبرعت بالشرح و الإيضاح :
أعتقد أنه قد إلتبس عليك أمر ما! ، هل تعرف اولادى إنهم بالصفين الثالث و الرابع الإبتدائى ؟ نادر و نبيل هل تذكرهما ؟
رد بهدوء و بثقة : نعم أعرفهم تماما! لهذا أنا أخبرك أنهم لم يسافروا معنا ، لقد حضر والدهم لإصطحابهم قبل تحركنا من المدرسة مباشرة ، و قال أنه يجب أن تلغى الرحلة و أن الولدين سيذهبان مع الأسرة إلى مكان آخر و ان ذلك بسبب ظروف أسرية معينة ، و أنك تعلمين هذا جيدا !
لا أعلم كيف إنطلقت تلك الصرخة .. و إلى أى مدى كانت قوتها ، لكن الجميع توقفوا عن الحركة تماما و صاروا ينظرون نحوى ، و أنا أنا أهذى ...أنظر إليهم جميعا  و إلى الأستاذ : أولادى أنا ،  تقول والدهم .. أخذهم . منذ شهرين .. لم يسافرا معكم !
 مستحيل .. مستحيل .. ان يفعل ذلك بى أو بأولاده .. يخطفهم .. كلا .. مستحيل ."
 أكلمت موجهة كلامى إلى أستاذ ناصر بحدة :" يبدو أنك لا تعرف من هو والدهم ، لا تعرف شكله حتى .. كيف سيأخذهم بدون علمى . ثم إلى أين ؟ إلى أين يذهب بهم ؟ و لماذا يبعدهم عنى ؟ انا أمهم ؟
 آه أولادى خطفوا من المدرسة ... خطفهم غريب ، شخص غريب ،!!"
 وأمسكت بتلابيبه بحدة ، فأجتمع الناس حولى يحاولون إنقاذ المدرس من يدى ، و كأنى احد الوحوش الضارية أمسكت بفريستها :
" المدرسة مسئولة ... أنا أريد أولادى .. أريد إستعادتهم مرة اخرى ، أنا أحضرتهم للرحلة و كان عليكم تسليمهم لى اليوم و الآن .. أين أولادى .. لن أتركك ، لن تفلت منى .. انا سأشكو إلى الشرطة .. "
 تعالت أصوات الجماهير حولى تطالبنى بتخليض الرجل من قبضة يدى ، و تطالبنى بالهدوء ، و لكنى ظللت أرعد و أصرخ  عاليا فى هياج :" أولادى ... أولادى .. انا أريد أولادى ! إبتعدوا عنى لا أحد يلمسنى ، لا أحد يتدخل ، لو إقترب منى احد فسوف اقتله " و أحكمت الخناق على رقبته مستخدمة قميصه بقوة لا أعلم من أين جاءت و لم اكن أعلم أنى قد أهدد يوما بالقتل ، لكنه بدا الخيار الوحيد أمامى ، فإما ان أقتل أنا أو ان أقتل من أجل استعادة اولادى مرة أخرى ...
 و إنتهى بنا المطاف فى زمرة من الحشد و أنا و المدرس فى قسم الشرطة ، أبلغت عن ما حدث ، و المدرس أدلى بإفادته للشرطة ، لكنهم تركوه يمضى فى حال سبيله ، و بقيت أنا فى ذهول ، أنظر إلى الضابط ...وهو يسألنى ، هل هناك خلافات بينى و بين زوجى ، لقد قدم المدرس ما يثبت أن الشخص الذى إصطحب الأولاد كان والدهم ، الوصف الذى أعطاه للرجل كان مطابقا لوصف زوجى ، و صيغته فى التعامل و طريقة تجاوب الأولاد معه كانت متماثلة تماما مع أوصاف و طريقة معاملته لهم كما أعرفها ...
و أعاد الضابط السؤال ثانية ..:" هل هناك خلافات بينك و بين زوجك؟
تثاقلت الكلمات و هى تخرج من فمى :" الخلافات العادية يا حضرة الضابط ! كل شيء عادى تماما !
سألنى :" هل زوجك كان يقيم معك فى مدة الشهرين الماضيين ؟
 و فجأة إنتبهت ، لقد سافر زوجى .. أخبرنى أن لديه عملا يقوم به فى الخارج و أنه سيمكث أربعة أشهر بالخارج ، و كأنى قد تلقيت صفعة قوية على حين غرة ..  و لم أدر بما حولى ....
 لم أدر على وجه التحديد كم من الوقت مر على و انا على هذه الحالة ، لكنى عندما صحوت و جدت نفسى ملقاة على سرير أبيض ، و حولى أجهزة كثيرة .. و وجوه كثيرة تلتف حولى ، لم أتعرف على أى وجه منها سوى على وجه الضابط فقط ، و شيئا فشيئا أدركت أنى كنت فى المشفى ، و أن هذه هى وجوه الأطباء و الممرضات ، إنحنى الضابط يحدثنى فى رفق : حمدا لله على السلامة  سيدة " دينا "  لقد أقلقتنا عليكى ، لكن الأطباء أكدوا ان حالتك مستقرة الآن .. نحتاج لمساعدتك حتى نعثر على أولادك ، تذكرى ما حدث فى الأربع و عشرين ساعة الأخيرة التى سبقت سفر الأولاد و والدهم بكل تفاصيلها  رجاء اً."
 كان يسألنى عن التفاصيل .. هل أذكرها ؟ ألم يعلم ان دقات حياتىتوقفت عندما رحل الولدان من منزلى ، عندما خيم الصمت ، و لم يعد يسمع صوت شجارهما الدائم ، و لم أعد أتذمر من كثرة مطالبهم و ندائهم المتكرر لى .. ماما  .. انا جائع .. ماما .. انا ظمآن .. ماما .ز أريد أن أشترى هذه ! ... ماما تعالى أنظرى ماذا فعلت ؟... ماما .. نريد أن نشاهد التلفزيون ... ماما ... ماذا عن خروجنا اليوم ... ماما .. ماما .. ماما..
 ءأتذكر ؟ نعم يا سيدى الضابط !كل شيء .. كل تفصيلة دقيقة هامة أو غير هامة .. أتذكر عبيرهم .. لمساتهم .. ضحكاتهم ، غير أنه ليس لدى شيء أخر أضيفه سوى أننى فى ذلك اليوم حضرت الفطور كالعادة ، و جهزت لزوجى حقيبة سفره مع حقائب سفرهم ، تأكدت أن نادر معه الكاميرا الفوتوغرافية الخاصة به ، فقد كان يعشق التصوير ، بينما وضعت الكمبيوتر المحمول الخاص بنبيل فى حقيبته فقد كان مولعا بإنجاز الأعمال و تسجيلها ، و ضعت كل شيء طلبوه ، حتى مصروفهم النثرى ، وضعته جيدا ، تحققت من تأشيرات السفر ، من وثائق السفر ، و من تذاكر السفر ، و أوصيتهم بالحفاظ على وثائق السفر الخاصة بهم هناك فى بلاد الغربة ،  و نزلوا .. حضر السائق الخاص بهم و اوصلهم إلى مدرستهم .. و بعد نزولهم بربع الساعة خرج والدهم .. على الباب ، ودعنى على غير عادة .. قال لى :" إعتنى بنقسك جيدا !" لم يسبق أن يودعنى فى أى مرة سابقة ، و لم يسبق أن يطلب منى أن أعتنى بنفسى ...
 ثم سافر هو أيضا .. طلبت منه أن اوصله للمطار ، فأعترض مبررا رفضه بأنه لن يكون بمفرده و أنه سيكون بصحبة عدد من زملائه فى العمل و رؤسائه ..
 و بقيت فى المنزل .. أعد الأيام .. و أسقط أوراق التقويم المعلقة على الحائط ، أستيبقظ يوميا و أنا أدعو أن يأتى الليل مسرعا ، و الأ يدوم النهار لأطول من ساعة .. كلا لأطول من ثانية .. حتى الثانية كانت تمر دهرا ..
كنت أذهب إلى عملى بلا  عقل ، و بلا قلب ، كانت دنياى خاوية إلا من صدى أصوت ولداى . و مرحهم  .. و صراخهم ... و الأن حرمت من كل ذلك ... فى اليوم الوحيد الذى إنتظرت فيه قدوم الشمس ، و أكبرت ظهورها البراق .. فى اليوم الذى كان منظرها عرسا امامى و كان غيابها ألما و عذابا لا ينتهى ...
 إنصرفت .. عائدة إلى منزلى ... أنظر إلى صورنا المعلقة على الحائط .. هذا الوجه لزوجى .. إنه يبتسم !
 أيسخر منى ؟ أم كان يخدعنى ؟
لأول مرة أرى فى عينيه مكرا لم ألاحظه قبل اليوم ، و لأول مرة أشعر بدهائه ، كيف صدقت تلك البسمة .. و كيف كان غامضا غريبا عنى إلى هذه الحد ؟!!
 و إلى جواره يقف الولدان ... يبتسمان .. و لكن ألم أخطر على بالهم يوما ما؟
لماذا لم يتصلا بى ؟ لماذا لم يحاولا إقناع والدهما بالإتصال بى ؟، لماذا لم حاولا ذلك حتى لو منعهما ؟ لماذا لم يخبرانى أنه حضر و أصطحبهما معه من المدرسة ؟ لماذا ؟
 هل أجبرهما على مقاطعتى ؟
 هل منعهما من الإتصال بى ؟ هل عذبهما حتى لا يخبرانى بحقيقة الأمر ؟
 راحت الأفكار تتزاحم فى رأسى و ظلت قدمى تفقد قدرتهما على الوقوف .. و صرت أقع ببطء على الأرض .. أستسلم لها و أبطى على رخام منزلى ... لماذا يبدو و كأنه زنزانة محكمة الغلق ... حتى ذلك الباب .. سمح لى بالدخول ، و لكنه الآن يبدو عاليا .. صعب الوصول إليه ...مددت يدى أحاول ان أنهض من جديد و أن أهرب من هذا المنزل .. ان اخرج من الباب .. لكنى فشلت .. و إستسملت للأرض الباردة و للبكاء ..




مر شهران ... منذ تلك الصدمة .. و انا أطوف على مكاتب المحامين .. و أقسام الشرطة .. و على منزل الأهل .. لم يتبق من أسرة زوجى احد سوى عمة عجوز تقطن فى الإسكندرية ، فرحت أسألها و أراجع معها ما تعرفه عن زوجى ، و لكن المسكينة لم تعلم شيئا عنه ، فلم أخبرها بدورى بما حدث .. و  كنت اتردد على أخوتى فى بادئ الأمر لكنى أحدا لم يحرك ساكنا ليقف إلى جوارى .. و بمرور الأيام تقلص إهتمامهم لمجرد الإتصال هاتفيا و البكاء على فراقى لأولادى ... لقد إعتدت على المنزل الخاوى .. و لم تردنى رسالة واحدة من أحد منهم ،لا من زوجى ، و لا من أولادى !
 و لم يستطع المحامين فعل شيء لى .. فهو والدهم و انا لا زلت زوجته .. و كان إصطحابه لأطفاله أمرا عاديا و حقا من حقوقه الشرعية ...
مر شهران كما ذكرت.. و لاز لت أشعر بأنى تلك المرأة المخلوقة الضعيفة التى لا حول لها ولاقوة .. و تساءلت لماذا إذن كل هذه الإشاعات التى تؤكد على حصول النساء على حقهن ، و أن الرجل صار مخلوقا مظلوما و مغلوبا على امره ؟! ، إذن بم تصنفون ما مر بى ؟
 لو أنى كنت أكثر نساء الأرض شرا لما رحل عنى زوجى بهذه الطريقة ؟ كان بيده تطليقى ؟ كان بيده حرمانى من كل حقوقى المادية لكن أكان عليه أن يحرمنى من أولادى ؟ بهذه الطريقة و بهذا الشكل ؟
 لو انى أكثر نساء الأرض شرا ، و قبحا ، و سوءا ، لكان طرنى من حياته أو ان يطردنى أنا من الحياة .. و لم يكن امامى خيار آخر سوى الإنتظار ... لقد ساعدتنى أحدى صديقاتى فى الوصول لأحد الموظفين فى المطار ، وو عدنى بدوره أن يخبرنى فى حال ما تأكد من إدراج أسماء أولادى أو زوجى فى قوائم الركاب .. و على أن أنتظر حتى يبلغنى هذا الشخص بموعد وصولهم ورقم رحلتهم الجوية 
 علمتنى الأيام أن اكره كل لحظات الإنتظار فى العالم .. لكن فى هذه المرة كان كرهى شديدا .. يصل إلى حد يمكن أن تنطفئ معه نور كل شموس الكون الفسيح .. وأن تصطدم مجراته .. و يتزلزل أركانه غضبا  ثائرا ملأ قلبى المكلوم.

.. فى صبيحة أحد الأيام ... دق جرس الهاتف .. إنه هو الموظف ، يخبرنى أن  زوجى .. و أولادى ...  عائدون اليوم ..و أن أمامى وقت قصير للإستعداد ..
 و ذهبت إلى المطار مسرعة ...
 عند إعلان رقم الرحلة المترقبة .. و قفت أخفى وجهى بين صفوف المنتظرين ... لا أعلم كيف أصف ما بداخلى .. بركان؟ .. لأ! فلبركان قد يخمد .. لكن ما بداخلى نار .. نار .. نار تحترق .. و تأكل كل ما يحيط بها .. نار تحترق .. نار تحترق و حان وقت أطفاؤها .. ها هو زوجى ..  يقترب ... و انا أيضا أقترب ...كلانا يقترب .. و  لا تزال تلك النار تضرم بداخلى .. أبحث عن ولداى .. أنهما بصحبته حقا ... الكل يبتسم ... و انا أحترق .. . إنهم كالماء .. و انا ألتهب ...
  إقتربنا ... كل فى طريقه ، و  فجأة توقفت أمامه و رفعت رأسى إليه ... رأيت كيف إرتسمت مشاهد الدهشة و التعجب على وجهه ، حاوطنى الأولاد .. لكنى لم أشعر بهما أبدا .. نظرت إليهما يبدوان غريبين عنى أليس كذلك ؟ لقد إختارا الذهاب دون كلمة واحدة .. ما هذا لم أشعربهما أبدا !
 لقد تلاشت كل مشاعر الحنين و الشوق و اللهفة من قلبى ... و ظلت تلك النار تحرقنى ... مد زوجى يده يريد مصافحتى ،وهو يسأل كيف عرفت بموعد الوصول ، و متى أتيت ؟  و مددت أنا أيضا يدى ، و لم أسأله شيئا قط ... فقط فعلت .. فعلت ما كنت أنتظر أن أفعله فى تلك اللحظة تحديدا ... قتلته !
تدافع الناس حولى يمسكون بى و يحاولون نجدته .. و أصبح هناك حالة من الهياج و الفزع فى صالة وصول الركاب ... و فجأة عندما رأيته يسقط امامى ... خفتت تلك النيران بداخلى ... و لم أعد أسمع أصوات الناس من حولى ... فقط سمعت صوتى يهمهم بداخلى :" 
لحنا عجيبا هادئا ...." هممم تتا ررا "
 لقد إصطحبوا أولادى بعيدا .. و انا أراقبهم فى هدوء .. و إقتادونى للخارج و انا أيضا أمضى فى هدوء ...
 و لا زال اللحن يهمهم بأذنى ...
 لقد  إخترت ان أبتعد عنهم كما  قرروا الإبتعاد عنى .. كما قتلونى ، قتلتهم  و ما عادت بداخلى تلك النار التى تحترق !



المشاركات الشائعة