قسمة و مشتهى2

الحلقة الثانية

زوجة جديدة
لم يكن ممكنا بأي حال من الأحوال لأب فارقته زوجته أن يتكبد عناء تربية و إرضاع طفلة صغيرة مع إثنين من أخواتها الصغار بدون وجود سيدة أخرى تتولى شئونهما و تعمل على رعاية الصغار ، خاصة مع تفرغ الأب لممارسة عمله خارج المنزل لساعات طوال ، لذا فلقد نصح الجيران و الأقرباء الأب أن يتزوج على الفور بسيدة تقبل تربية الصغار و كانت الأولوية بالطبع لخالة الأطفال فهي الأحق بتربيتهم و العناية بهم ، كيف لا و هم جزء لا يتجزأ من أختها المتوفاة و التي تربطهما معا صلة وثيقة من الدم و صلة الرحم ،، كان هذا منطق الأهالي  وعرفهم السائد في ذلك الوقت  وعلى الفور جاءت الخالة لترتدي ثياب الأم و تحمل مهامها كبديلة عن أختها المتوفاة ، غير أن صراع الأنثى بداخل حواء لم يجعلها تنسى في يوم من الأيام أن فارسها الذي إنتظرته طويلا لم يركع حبا في جمالها الفتان أو خصالها الحميدة إنما جاء وفق توصية الواجب و من منطلق حل أزمة الموقف ، و الأدهى أن عليها أن تطارد شبحا لا وجود له كي تفوز بقلب زوجها الجديد و بقلب أولاده أيضا .. و عاشت " قسمة"  خالة الأولاد و زوجة الأب الجديدة ،حياتها و هي تصارع ذاتها مرات و تصارع واقعها المفروض عليها مرة  ولم تكن نتيجة الصراع مرضية لأي من الأطراف في أي يوم طلعت عليه الشمس أو غربت ، و مرت السنوات طويلة مملة و عادية و كبرت الطفلة "مشتهى " بعيدا عن حنان الأم الحقيقية ، إلا أن إخوتها الصبية كانوا بالنسبة لها الملجا الذي دوما ما تحتمي به عندما تشعر بأنها بحاجة إلى حنان و دفء العائلة . خاصة أخوها الكبير "محمود" الذي كان أكثر تفهما لمذاق اليتم و ذل استجداء المشاعر من الآخرين ، و بالطبع كانت الأيام كفيلة مع وجود زوجة جديدة أصغر سنا من سابقتها و أكثر نصيبا من الجمال أن تجعل الأب ينسى إلتزاماته تجاه أولاده الثلاثة فى معظم الأحيان ، و يحول تفكيره إلى الرغبة الملحة في طمأنة تلك الزوجة الجديدة بأن الشبح الذي تحاربه و لت أيامه بلا رجعة ، و تعلم "محمود" من صغره كيف يتدبر أمره و أمر إخوته وحده ، كيف يكون مسئولا بلا تعب أو كلل من طلبات صغيرة لا تنتهي و لا توجد لها مبررات منطقية ، بل مجرد إلحاح و منافسة بين إثنين من الأخوة تركتهم أمهم في وقت كانوا أمس الحاجة فيه لصدر حنون يحتويهم و يفهم مشاكلهم ، حتى أن درجات " محمود" المدرسية كانت تتناقص و تتدهور دون أن يسترعي ذلك إنتباه احد من كبار المنزل و مدبري شئونه ، إلا أن طبيعة الأنثى في صدر الصغيرة " مشتهى " جعلتها تنتبه إلى بكاء أخوها الصامت و إلى دعائه اليومي لوالدته و كانه يستدعي روحها من عالم الأبدية و يطلب منها العودة من جديد للمؤازرة و السند في كل ما هم به من متغيرات في الحياة ، ووسط مرارة تلك الأحداث كانت " مشتهى " تدرك لأول مرة معنى جديد للمسئولية بدون أن تدخل تلك الكلمة إلى قاموس لغتها الخاصة ، لكنها شعرت بأن  اخوها " محمود" يحتاج لضمة حنان ، و سارعت تلك الطفلة إلى تقديم ذلك الدعم البسيط و عاهدت نفسها امامه على أن تتغاضى عن شقاوة أخيهما " سمير" الأوسط فى ترتيب الأخوة ، و اصفة ذلك بقولها:
"مشتهى" :  " إنت بتعيط ليه يا محمود ؟
 محمود : " يستمر فى البكاء دون أن ينبس ببنت شفة
مشتهى :" عاوز ماما تيجى من عند ربنا ؟"
محمود ، ينظر إليها بإستغراب شديد و تبدأ انفاسه الباكية فى الهدوء قليلا و هو يفكر فى صراحة و جرأة عبارة تلك الصغيرة التى إستوعبت مكنون قلبه و حزنه ،
مشتهى : " بس إنت كبير يا محمود و عارف إن اللى بيروح عند ربنا ما بيجيش تانى ! ، يبقى أكيد زعلان علشان أنا و سمير دايما بنتخانق ؟ صح ؟ خلاص هأهدي اللعب معاه شوية ، و نعمل صلح حليب يا قشطة ، صافي يالبن على طول ؟ إيه رأيك يا "محمود"، خلاص هتبطل عياط  بقى؟"
إبتسم الأخ و مسح عن عينيه دموعا ساخنة و لأول مرة ينظر إلى اخته نظرة مختلفة ، لقد شعر بغريزته أن تلك الصغيرة تمتلك نظرة  خاصة للأمور و حسا عاليا و مرهفا بمن حولها ، و أن عليه الآن حمايتها من كل ما قد يقابلها من خطر حتى تظل قوية كما هي و ذكية و لماحة ،
محمود : " خلاص مش هعيط أبدا تانى ، لو و عدتينى إنك تهدى اللعب مع سمير زى ما قلتى "
 مشتهى :" ماشى ، أنا بحبك أوى يا محمود و الله و بحب ماما كمان مش هى دلوقتى فى الجنة يعنى فى مكان احسن من اللى إحنا عايشينه و تلاقيها بتلعب وتضحك و كمان عايزانا نضحك و نلعب زيها صح ؟
محمود : " صح يا حبيبتى ، إنتى صح ، و علشان كده انا هجبلك لعبة جميلة تلعبى بيها زى ماما بالضبط ." و قرر أن يصطحبها إلى المتجر كي يشتري لها من أمواله الخاصة حلوى تحبها و لعبة تلهو بها، على سبيل المكافأة و التشجيع .

بداية جديدة
عند المتجر ، لم تطلب " مشتهى " حلوى كما هو متوقع ممن هو في مثل سنها ، بل طلبت كراسة و قلم ، وفي اليوم التالي طلبت من أخوها "محمود" أن يقوم بتعليمها حروف الهجاء ، و لم يتوقع "محمود " هذا الطلب من طفلة عمرها ثلاث سنوات ، لكنه وجد نفسه راضخا لها و بدأ بالفعل في تعليمها كتابة الحروف و نطقها ، و مع هذا الطلب الغريب من "مشتهى " زادت شهية " محمود" على تحصيل العلم و عاد مرة أخرى إلى اقباله على الكتب يلتهم ما فيها من علوم بسرعة شديدة و ذكاء متقد ، و العجيب أن تلك الصغيرة كانت احيانا تساعده بشكل غير مباشر على التحصيل عندما كانت تحفظ أشياء مما كان يرددها و تعيدها على مسامعه مرة اخرى بكل دقة ، لقد تأكدت نبؤة " محمود " بذكاء اخته ، فكان يعمد إلى إصطحابها معه لزيارة المكتبة العامة  وأماكن الثقافة للطفل .
لم يرق هذا التناغم و التفاهم بين "محمود" و "مشتهى" لأخيهما " سمير " كثيرا ، فكان  حبيسا لفكرة انه مهمل و منبوذ جانبا عن هذا الإتحاد بين الأخوين  ، فظل يشاكسهما من وقت لآخر بمجموعة من المقالب و الفتن و المكائد لدى زوجة والدهم أو لدى الوالد فى محاولات لجذب الإهتمام أو لفت الأنظار إليه  كلما تواجد بالصدفة في المنزل ، غير أن " مشتهى " كانت تمتلك مواهب اخرى غير الذكاء المتقد لأنها كانت تجيد إستفزاز "سمير " او زوجة والدهم ؛ أقصد خالتهم سابقا ، فيتوه الموضوع الأساسي سبب الجدال و تتفرع المناقشات دون جدوى حقيقية ، و في خضم إحتدام المناقشات الساخنة في المنزل العجيب ، و في اللحظة المناسبة تنسحب " مشتهى" في براءة إلى غرفتها غير أبهة بكل الأصوات حولها و تظل في غرفتها ترسم ، نعم .. كانت ترسم و كانت بارعة في رسمها ، غير أن موضوعات رسمها  كانت تفتقد التنوع ، فكل ما تقوم برسمه هو لوحة للقمر و مع أنه قد يتبادر إلى أذهاننا أن القمر لوحةعادية قد لا تبهر احد على الإطلاق ، لكن هذا لم يكن رأى " مشتهى" حول ذلك الجرم السماوى ، إذ كانت " مشتهى " تمتلك موهبة فذة في تحويل ذلك القمر إلى حالة من حالات التعبير غير العادية ، فتارة تجد القمر طبيبا يفحص مرضاه من النجوم بينما تساعده الأرض على إجراء ذلك الفحص ؟
 أو ربما تجد القمر ضاحكا بوجه عبوس ؟!!لقد كانت لديها القدرة على تجسيد عمق ألأفكار التى تدور فى رأسها الصغيرة ، برتوش ساذجة و بسيطة لكن الناظر إلى تلك اللوحة كان يرى أبعد من مجرد ألوان و خطوط ، كان يرى خبرة تتكون لحياة صغيرة.
 و مرت الأيام على حالها بين رتابة أو ملل او حتى بعض البهارات ، حتى أدركت " قسمة" الخالة زوجة الأب الجديدة حيل الصغيرة و إكتشفت سر رسوماتها و وجدت في ذلك السر عصا لإذعان تلك المتمردة التي لا يطولها عقاب من أي نوع في ذلك المنزل ، و إنتظرت الفرصة المناسبة ، حين بدأت الإجازة المدرسية لنهاية العام ، و في ليلة صفا ، طلبت " قسمة "من زوجها أن تشارك " مشتهى" في مهام المنزل من تنظيف وطهي و غيرها من المهام بنية أنها تريد تعليمها كيف تصبح زوجة و ربة منزل ناجحة في المستقبل ، وبالطبع وافق الأب على الفور على مطلب الخالة البرئ!! بينما كان غرضها الحقيقى هو إبعاد تلك الصغيرة عن ممارسة ملاذها الوحيد بالرسم و الألوان ، و بدأت مضايقاتها تزداد وضوحا و علانية عندما بدأت تخيرها بين شراء مستلزماتها المدرسية و بين أقلام الرسم و ألتلوين ، غير أن " محمود" كان دائما ينقذ الموقف بما أدخره من مصروف مدرسته حتى يمنح أخته الصغيرة قدرا من سعادتها فى الرسم و التعبير بالألوان عن مكنون صدرها و أحلامها ، و بالطبع كانت الرسومات هذه المرة تتم بطريقة سرية للغاية فعادة ما تنتظر " مشتهى" أن يحل المساء على منزلها و ينام اهل البيت جميعا حتى تبدأ فى ممارسة هوايتها المحرمة  و البريئة فى نفس الوقت .
 لكن جاء اليوم الذى  إستبقظت فيه  الخالة " قسمة"  على صوت زجاج يتحطم فى الصالة ؛ لقد كانت الصغيرة " مشتهى" تحاول أن تشرب الماء عندما كسرت عن غير قصد ازجاجة المياه فى الصالة لأن الزجاجة لم تكن محكمة الغلق و كانت قبضة الصغيرة غير محكمة على غطاء الزجاجة ، فوقعت و إنكسرت ، و مع إستيقاظ " قسمة" إستيقظ الأب و الأبناء  كانت الفرصة سانحة حتى تمزق  "قسمة" الرسومات و تعلن على الملأ أن الإبنة الصغيرة "حرامية" تختلس من مصروف المنزل حتى تشترى الألوان و أدوات الرسم و التى منعت من شرائها ،
قسمة : شايف عمايل بنتك المحروسة ، كسرت الإزازة ، طبعا ماهى فى موال تانى موال الرسم و الألوان ، ثم تعالى هنا يابنت ، جبتى الحاجات ديه منين ؟ما تسألها يا أبو محمود؟
أبو محمود :  اسألها عن إيه بس ؟أكيد من مصروفها ؟
قسمة : ابدا ده مصروفها يا دوب بيكفى كتب و ملازم المدرسة و الكراريس ، جابت فلوس الألوان منين؟
أبو محمود: يمكن بتحوش يا قسمة ؟ يعنى إنتى عجيبة سايبة الإزازة المكسورة و بتتكلمى فى ألوان و مصروف ؟
قسمة : أيوة يا أخويا بتكلم فى ألوان و مصروف ما هى الألوان و الرسم هى اللى كسرت الإزازة و عارف الأخطر إيه كمان ، إن الهانم المقروضة بتخنصر من مصروف البيت لما بأطلب منها تشترى لنا حاجات و خضار و تشترى لنفسها الألوان بالشيء الفلانى ، ابقى أنا عمالة أحبأ و ادبأ من هنا وهناك و بنتك تجوعنا و تاخد الفلوس لنفسها ، يصح ده و اللا ما يصحش ؟
  أمام هذا التصريح قام الأب بضرب الفتاة بالعصا الطويلة و التى يحتفظ بها لعقاب أبنائه .بينما كاد " محمود" ان يعترف بأنه هو الذى يشترى الألوان ، غير أن نظرة إرتسمت على وجه أخته الصغيرة منعته من الكلام ، فعلى الرغم من آلام الضرب المبرحة كانت " مشتهى " تحاول نقل رسالة بعينيها إلى إخيها الكبير لتمنعه من التحدث بشأن سرهما الصغير ، و أشارت إليه بلا ، بمجرد النظر ، و كانت عينيها كفيلة لأن تحل الدموع الصامتة محل الكلمات المختنقة فى حلق أخيها الكبير ، و مضت الليلة ، غير أن آثار الضرب لم تمض من ذاكرة " مشتهى " و قد اخذت تراقب جسدها الصغير و قد إرتسمت عليه علامات العصا فى خطوط مائلة و لكنها مستقيمة ، و أخذت تحصى عدد الخطوط التى تراها فى المرآة و جدتها إحدى عشر خطا ، و قالت هامسة :" حداشر ، حداشر ، حدا ... ية ، لكن أنا " مشتهى" و الكون ده كله لسه مايعرفنيش ."

تتبع ......

المشاركات الشائعة