مصر التى فى خاطرى

على مدار الأربع وعشرين ساعة الماضية لم يغمض لى جفن ، لقد إنتقلت زحمة الشوارع و الميادين من وسط البلد فى القاهرة إلى رأسى ، و توقفت مئات الخلايا العصبية عن التفكير بشكل منطقى ، ثم سرى سيال عصبى متردد فى كل الخلايا فجأة ، و بدأت أرى فيما يشبه احلام اليقظة سيناريو جديد ، لا بل آلاف السيناريوهات الجديدة لمصر التى فى خاطرى بعد إنتخابات الرئيس لأول مرة منذ الثورة ، و يبدو ان تزاحم الصور لم يكن كافيا ، أو أن عقلى كان به متسع من المساحة ليسمح بان تتداخل الأصوات تهامسنى تارة ، ثم تصرخ فىً تارة أخرى و هى تحمل تساؤلات عديدة عن المستقبل ..و الغد ،  و كلها يتحد فى سؤال واحد: ماذا بعد الإنتخابات ؟؟؟؟
 إنتظرت الفجر بفارغ الصبر ، و يبدو ان كل المصريين كانوا مثلى تماما يمرون بما أمر به ، و يشعرون بذات القلق ، و التوتر ،  فلقد رأيت طوابير غفيرة على مقار لجان الإنتخابات منذ الصباح الباكر ، بل إن معظمها كان متواجدا و بكثافة قبل الموعد المحدد بساعتين على الأقل ، و قلت لنفسى ،  إن كان هذا هو حالنا ، ماذا عن حال الموظفين ، رؤساء اللجان ، القضاة ، القائمين على الأمن ...، المراقبين ، و الصحفيين ؟
 ثم تنبهت إلى أننى واحدة من هؤلاء الصحفيين ، غير أنى لا أعمل فى المجال السياسى ، فالأمر لا يستهوينى ، أو لأنى أحيانا كثيرة ما أفتقر إلى دبلوماسية التعامل أو التصريح ، فما لدى سوى لونين الأبيض و الأسود فقط ، بينما تعتمد السياسة على الألوان المتداخلة فيما بين هذين اللونين وبدرجات مختلفة ....
 عدت من جديد إلى حالتى و أنا أنتظر دورى فى صف طويل من السيدات ، و مرت على الدقائق و كأنها دهورا و سنوات طويلة ،  ويبدو أن الصمت و الإنتظار كانا من العوامل التى حفزت زحام رأسى إلى العودة من جديد ، و الأمر بدأ ببساطة فلقد تنبهت فجأة إلى أننى أرغب فى النوم الأن و حالا !!
 و بدأت أؤنب نفسى على عدم النوم طوال الليل ، ثم تطرق الأمر إلى الأسباب التى ادت بى إلى عدم النوم ليلا ، و هكذا عادت الأصوات و الإشارات الكهربية .... و طار النوم مجددا.. و حل محله خوف من قلمى .. من رأيى ... من إختيارى ... ثم تتابعت المشاهد فى رأسى حول السيناريوهات المحتملة التى تحدثت عنها فى البداية ...
و لأول مرة أتشكك فى القلم  الذى امسكه بيدى على الرغم من حميمية العلاقة بينى و بينه و على الرغم من ثقتى الكبيرة فيما يذهب إليه من حروف و إشارات و كتابات ، إلا أن هذه المرة كان الوضع مختلفا ، خفت أن يزوغ بصرى فاختار أحد المرشحين الذين كنت قد عقدت العزم على عدم إختيارهم أو ترشيحهم من باب الخطأ ، و خفت ثانية فى ان يتوقف القلم فجأة عن الكتابة فى وقت لا يوجد فيه قلم بديل ، و خفت ألا يكون  الإختيار الذى وافقنا عليه سويا .. أقصد انا و القلم .. إختيار غير صائب ، قد يودى ببلادى إلى التهلكة بدلا من النجاة !
 و هكذا بدا لى خوفى الثانى من إبداء الرأى ، فكرت أن انسحب ، لكنى لم أعتد الهروب من مواجهة المشاكل ، و لا الأقدار ، و لا أى شيء بالمرة لدرجة أنى احيانا أتشكك فى إن كنت أنتمى إلى جنس النساء بخوفهن و ذعرهن و هروبهن من أقل شيء ، فقلبى صلب تماما ، أو هكذا يبدو لى .. غير أنه ستتغير تلك النظرة  بداخلى عن نفسى او قلبى أو عن رأييى ... و بدأت أعيد التفكير من جديد ، و لكن بهدوء ، لقد كانت لدى أسبابى المقنعة تماما فيما ذهبت إليه من رأى حول المرشح الرئاسى الذى قررت إنتخابه ، و كانت شروطى للإختيار واضحة تماما ، تتمثل فى ألا يكون المرشح سببا بشكل مباشر أو غير مباشر فى إثارة الفتن و المزيد من الشرارات المتصاعدة للأحداث ، أو بالأحرى و بلغة السياسة أن يكون توافقيا ، لا يختلف عليه أى حزب مهما تعددت إتجاهاته او إهتماماته ، ثم ينبغى ألا يكون ذو سمعة سيئة أو مواقف مختلطة أو متضاربة ، أو يكون ممن تحوط بهم شبهات الخضوع لأنظمة سابقة ، أو توجهات غير مفهومة ،  و تخيلت معه مستقبل مصر ... كيف ستكون ؟ أردت فى إختيارى أن أتأكد أن من يمثلنى فى الورقة الخاصة بالإنتخابات يجيد التفكير بشكل علمى ، و يعمل بمنهجية واضحة ، و له أراء واضحة تحسب عليه أو تحسب ضده لا يهم ، إنما يهمنى ان يكون واضحا شجاعا فى تحمل مسئوليته ، و شجاعا فى السماح للإختلاف فى وجهات النظر ...
أردته أن يكون قويا ... صارما ... عادلا... حنونا ..  يشعر بمعاناة الأخرين و لا يستكبر عند الخطأ ، بل يعمد إلى تصويب خطئه على الفور .. أردته أن يكون حلا أو مركبا للإنقاذ لما نحن فيه من إنشقاق و فرقة ...
 و هكذا إخترت مرشحى ... 
توقفت عند هذا الحد .. إذ أن هذه الشروط تتوافر لدى كل المرشحين على حد سواء ، و كل المنتخبين قد حسموا إختياراتهم بناءا على نفس التقييم الذى عمدت إليه .. و مع ذلك كل منا يرى ان مرشحه أفضل ، و قد لا نتفق فيما بيننا ، لكن المعايير كانت واضحة ..
 إنما ما لم يكن واضحا هو نفوس المرشحين ... ماذا لو كان الذى إخترته يرتدى قناعا زائفا ، أو وصوليا ، أو أو أو ، و تاهت منى الكلمات عندما بدأ الصف يتحرك و بدأت أقترب من البوابة ... كنت قد عقدت العزم على ان أتلو دعاءا خاصا و سريا عندما أدخل إلى لجنة الإنتخابات ، و أن أتلو ذات الدعاء و أنا أكتب فى الورقة إسم مرشحى المختار ، ثم أتلو الدعاء مرة أخيرة و أنا أضع الورقة فى صندوق الإنتخابات ...
تحرك الصف و أصبحت داخل اللجنة ... و تلاشى كل الزحام و كنت فى غاية الهدوء و التركيز و كأن شيئا لم يطرأ فى بالى  ، لم أكن خائفة .. لم اكن أفكر إلا بالدعاء الذى خصصته لطقوس الإدلاء بصوتى فى الإنتخابات ، و تلوت دعائى وأنا أمسك بالقلم أوقع فى كشوف الناخبين ، ثم على الورقة الغالية التى تحمل إسم أول رئيس لمصر الثورة ، ثم طويتها و انا أتمتم بالدعاء ، و بدأت أتحرك نحو صندوق الإقتراع ، و هناك اكملت الدعاء و أنا أمسك بورقة الإنتخابات بيدى اليمنى من باب الفأل ، و عندما إنتهيت من وضع الورقة كنت أحرك شفتاى صامتة و أقول : اللهم و لى الأصلح لمصر ، و مع نهاية حركة شفتاى  تحركت عيناى للأعلى فوجدت المراقبات فى لجنة السيدات  يتابعننى  ويقولن ورائى بنفس الصوت الخافت  :" آمييييين"
 بكيت .... و فرحت ... فما أجمل أن يؤمن على دعائك المخلص أشخاصا آخرين لا تعرفهم و لا يعرفونك  ... و شعرت ان لون الصباغ فى إصبعى هو لون الحناء التى تفتخر بها كل سيدة و تلجأ إليها للتجمل و التباهى .. هكذا شعرت عندما أدليت بصوتى ،
 لقد قضت تلك الكلمة الرائعة على زحام مرور الإشارات العصبية فى رأسى .. و علمت أن مصر التى فى خاطرى ستسلم بإذن الله تعالى .
" اللهم  ولى الأصلح لمصر ".

تعليقات

المشاركات الشائعة