قسمة و مشتهى


لم يكن يوم مولدها مثل سائر الأيام العادية ، و كأن الأقدار كانت تعد مسبقا لهذه الطفلة  كل ملابسات مولدها حتى تضيف علامة في علامات سجل حياة هذه المخلوقة البريئة.

                                                   روناء المصري

"الصفحة الأولى"
لكم إستعانت " أم محمود" بالسيدة " لهلوبة " العرافة الشهيرة التي تقطن بجوارهم في ذلك الحي الغريب بأحد شوارع القاهرة الفاطمية ، ذلك لأن هذا الحي لم يكن يتبع تصنيفا محددا ، فلا يمكن أن تصفه بالحي الراقي أو بالحي الشعبي و كان ذلك أحد سمات المكان الذي قرر أن يكتفي ذاتيا بكل المرافق و الخدمات الضرورية لحاجات اليوم الملحة  للسكان ، و حتى السكان أنفسهم كان لهم طابعا خاصا جدا يميزهم فلا هم من الطبقة الدنيا او الطبقة الغنية لكنهم كانوا منفردين تماما ، إذ لا يمكن أن تطلق عليهم تسمية الطبقة الوسطى خاصة مع أفكارهم عن التحرر و الحياة ، فلقد كانت أفكارهم متمردة ساخنة و تميل احيانا إلى تفكير الغرب المعتدل في حقوق الإنسان . نعود مرة أخرى إلى "أم محمود " ، إنها الأن تستدعي العرافة " لهلوبة "  لأخر مرة قبل أن تضع مولودها الثالث ، لكنها هذه المرة تتمنى أن تنجب طفلة أنثى ، فلقد رزقها الله عز و جل بطفلين من الذكور غير أن رغبة زوجها الملحة في إنجاب فتاة جعلتها تتخلى عن نصائح الطبيب بعدم الإنجاب خوفا من تدهور صحتها أكثر من اللازم ، لتخوض تجربة الإنجاب من جديد رغبة في إرضاء الزوج و العشير ، و لم تأبه " أم محمود " بكلام الأطباء ، و  ِلم تفعل و لقد دلتها " لهلوبة " بحرفيتها على أن الحمل القادم يحمل فيه رزقها و قسمتها من السماء ، و أن معه أبوابا جديدة ستفتح للجميع . و أخذت " أم محمود" بكلام عرافتها الذي كان يلاقي صدى الإستحسان من زوجها ايضا ، كيف لا و هو صاحب مطلب الإنجاب من جديد، لكن مع مرور الوقت و إقتراب موعد الولادة تشعر " أم محمود" بآلام لم تعتد عليها من قبل في ولاداتها السابقة ، فتطلب العرافة كي تسألها بخبرتها عن السبب فيما تمر به من متاعب و تدعوها لكي تقرأ لها طالع المولود الجديد قبل أن تطأ قدمه دنيانا التي نعرفها .
لهلوبة: إنتي برضه لسه خايفة يا ست أم محمود؟
أم محمود: لأ أنا مش خايفة و لا حاجة لكن حاسة إني خلاص يومي جه و الطفل ده مش هيلاقيله صدر حنين يبكي عليه.
لهلوبة: طيب ما أسيب شغلتي أحسن مادمتي إنتي خلاص بقيتي تعرفي البخت و المقدر ، يا ستي ، الودع و الفنجان و الورق و النجوم ما بتكدبش معايا خالص ، و أنا قريتهملك قبل كده يجي عشرين مرة و اللا نسيتي؟!
أم محمود: يا ست لهلوبة يعني عاجبك التعب اللي أنا فيه؟  آديني أهه هاموت و اسيب ولادي من غير مراعية من حد ،
 و إختنقت الحروف في حلق " أم محمود " بالبكاء بيد أنها لم تقو على التعبير عن دموعها المكبوتة إذ كان صدرها ضعيفا لا يستطيع التنفس بقوة ، لكنها تمالكت نفسها و أكملت حديثها مع العرافة ..لكن صوتها كان أقرب إلى الهمس منه إلى الحديث
أم محمود: آخر حاجة عاوزاها منك هي إنك تحسبي للمولود الجديد ده بطريقتك و تقوليلي إنتي شايفة إيه في بخته و أيامه؟
و بدأت " لهلوبة" في إجراء حساباتها الخزعبلية في تمكن لعلها تصل إلى قراءة معينة تطمئن بها قلب تلك الأم المنتظرة ،  وبعد فترة مرت كالسنوات الطوال على " أم محمود" جاءتها قراءة العرافة في هدوء غريب
"لهلوبة" : يا ستي زي ما قلت لك زحل دلوقتي بيعدي في برج العذراء ، و المشتري بيدخل في برج الجدي ، يعني ممكن يكون المولود إبن حظ بصحيح ، ذكي و بيعرف يكسب و يعمل حاجات كبيرة في حياته ، بس بقى يا ستي هيكون ولد مش بنت زي ما قلت لك قبل كده معلهش الغلطة ديه عندي كان حقتنا إشتغلنا بالأرقام و الحسابات زي النهاردة ، إيه قولك بقى؟
"أم محمود": إقري كويس يا ست إنتي  أنا خلاص مابقتش مهتمة يكون ولد و اللا بنت المهم إن مفيش حاجة كده واللا كده هتعكر حياة المولود ، أنا عاوزة اطمن عليه قبل ما يجرالي حاجة ، المهم أطمن عليه فاهماني
"لهلوبة" : أنا قلت لك على اللى شفته و حسبته لكن معرفش التفاصيل ، أصل أوقات الكواكب ديه بتغير حاجات كتير هو وجودهم مع بعض بالطريقة ديه يعني إن فيه حاجة كبيرة هتحصل و إن فيه تغييرات هتيجي ، ومنين ما هيروح مولودك ده هتبقى دايما فيه جديد و تجديد ، لكن أقولك الله أعلم.
تنبهت " أم محمود" على جملة "لهلوبة" الأخيرة و قررت أن ترددها بصوت عال و كانها  قد ذكرتها بشيء لم يخطر على بالها .
أم محمود" : الله أعلم ,, الله أعلم ,, الله أعلم ، يا رب إنت وحدك أعلم ، أنا غلطت كتير لما نسيت وجودك لكن دلوقتي يا رب أنا باسألك إنت وحدك إنك تحرس اللى ف بطنى و تحفظه مهما كان ولد و اللا بنت و إنك يا رب تحنن عليه قلوب الخلق أجمعين.
و تغادر " لهلوبة "المكان و هي تمصمص شفتيها في غير رضا و تتمتم قائلة : أه يا اختي يا أم محمود ، المولود ده بخته زي العصا ، آديني قايمة و حاسة زي ما اكون اخدت علقة جامدة و بصراحة مش عارفة اللي هيجي ده مكتوب له السعد و اللا الشقا ؟
لم تنتظر " أم محمود" كثيرا كي تشعر بمخاض الولادة بعد مقابلتها مع عرافتها ، إلا أنها إنتظرت طويلا حتى خرج وليدها إلى النور ، و كم كانت سعادتها حينما عرفت أنها رزقت بمولودة أنثى ، ضمت طفلتها إليها بكل حب الأم و حنانها ،و هي تبكي  و تصلي في خشوع لله تعالى بدعاء هامس لم يسمعه أحد من القابلات اللاتي كن معها في غرفتها ، لكن هذا الهمس إنقطع فجأة  عندما  هدأت قبضة الأم على الصغيرة  ، و أسرع الجميع يطلب عون الطبيب الذي كان لا يزال موجودا في المنزل إلا أن الوقت كان قد مضى كما مضت  أول صفحة من حياة الطفلة المولودة  "مشتهى" ، و التي قدر لها منذ الصرخة الأولى لها في الحياة أن تحمل لقب "يتيمة الأم".

تتبع .......

تعليقات

المشاركات الشائعة