Salamat Pagi سلامات باجي الجزء الأول

 

سلامات باجي  Salamat Pagi

بقلم / روناء المصري

القاهرة فى 30 –يناير-2022

 تم النشر فى 1 فبراير 2022 -                        جميع الحقوق محفوظة

جاكرتا  على خط الإستواء

تداركتني رحمات الله عز وجل بعد فقداني لوالدتي الغالية فى أغسطس عام 2017م، عندما تم إختياري ضمن بعثة الإعلاميين المصريين للسفر لأندونيسيا وزيارة مقاطعة جاوه الشرقية هناك، ضمن برنامج الصداقة المصرية الإندونيسية بهدف تعزيز السياحة و السفر بين البلدين الصديقين.

و كان موعد السفر قد تقرر فى شهر نوفمبر لنفس العام 2017، حيث تم إبلاغي بأن الرحلة ستستغرق حوالي عشرة أيام سنسافر فيها إلى عدة مدن ضمن إقليم جاوه الشرقية، و على رأس برنامج الرحلة كان زيارتنا لبركان " برومو" الشهير النشط فى إندونيسيا ، و الذى يعد مقصدا للسياحة العالمية من شتى بقاع الأرض و مع مختلف الأعمار و على قدر هذه الإثارة تحمست لرحلتي التى إعتبرتها رحمة من عند الله تعالى.

 كان الفريق الصحفي المسافر من القاهرة يضم صحفيين من الشباب " مصطفى السيد" من المصري اليوم، و الصحفية "مريم" من "ذا إيجبشن جازيت"  إلى جانب طاقمنا التلفزيوني و الذى كان يضمني أنا و المخرج " مؤمن المصري"، إلى جانب وفد السفارة الإندونيسية المصاحب لنا و الذى كان يضم السيدة/ أروم بريماستي ، السكرتير الثالث والمسؤل الإعلامي للوفد، و السيد/ إروان كابيتولا، المنسق الإعلامي و اللوجيستي للوفد، و التجمع كان فى مطار القاهرة، حيث سنتلقي جميعنا لأول مرة ، فى الواقع ليس جميعنا فأنا و مؤمن زملاء لنفس القناة الثقافية التابعة لقطاع شبكة قنوات النيل بالتلفزيون المصري، و كان من المقرر أن يقوم "مؤمن" كمخرج بالتصوير بينما أقوم أنا بعملي فى كتابة السيناريو وتجميع المعلومات وتحضير الضيوف، و كانت هذه هي المرة الأولى لي فى العمل مع " مؤمن المصري" و على الرغم من تشابه ألقابنا إلا أننا لا نمت لبعضنا البعض بأي صلة قرابة، اللهم سوى أننا جميعنا مصريين.

الرحلة ستستغرق حوالي أربع ساعات للسفر إلى مطار أبوظبي، ثم الإنتظار فى الترانزيت قرابة الأربع ساعات أيضا حتى يحين موعد الرحلة التي ستقلنا من مطار أبوظبي إلى مطار جاكرتا العاصمة الإندونيسية، وهي الرحلة الأطول  حيث تبلغ المسافة التى تفصل ما بين مطار أبو ظبى الدولى و جاكرتا عاصمة إندونيسيا حوالى 7 ألاف كيلومتر ، يتم قطعها فى قرابة التسع ساعات متصلة بدون توقف ، ولا تخلو الرحلة من مغامرات الإثارة و التشويق ما بين الحينة و الأخرى خاصة عند مرورك على المحيط الهادى الذى لا يمت للهدوء بصلة ، و مع وجود المطبات الهوائية العنيفة كان لزاما إرتداء الحزام الآمن معظم الرحلة ، لنستكشف ذلك الأرخبيل الواسع و الذى يضم أكثر من 17 ألف جزيرة و يشكل إندونيسيا ، بمعنى أخر كان السفر سيستغرق منا يوما كاملا ستختلف فيه توقيتات الليل و النهار ما بين إندونيسيا و بين القاهرة و كذلك الحال ما بين ساعتي البيولوجية على ما أعتادت عليه و بين توقيتها الجديد.. كنت قد سمعت عن Jet Lagging و التأثير الذى قد يحدثه على ساعتنا البيولوجية و كنت اخشى مع إزدحام جدول زياراتنا ورحلاتنا الصحفية أن تفوتني رحلة ما، او أن يتم نسياني فى الفندق !!! ههههههه أفكار مزعجة ليس لها أساس من الصحة لكن لا يمنع أنها قد تراودني على الرغم من كوني محترفة فى مجالي و سبق لي السفر، لكن هكذا صورت لي أفكاري فى وقتها..

 وبدأنا الرحلة صعدنا الطائرة التى ستقلنا إلى أبو ظبي، كانت السفارة قد حجزت لنا على متن طيران الإتحاد ، و فى الواقع أنا أحب السفر على متن هذه الخطوط فهي منتظمة و مريحة و أشعر بشيء من الطمأنينة داخل طيرانها، غير أنه لا يمكنني النوم مهما طالت الرحلة، فعقلي العنيد يأبى أن يعطي أوامر لعيناي بالذهاب فى رحلة إلى العقل الباطن عبر النوم، أو حتى التظاهر بأني سأنام ، فعيني لا يغمض لها جفن أبدا طوال ساعات السفر.

الجميع حذرني من الإرهاق، لكني عبثا حاولت أن أنقل لهم أوامر عقلي العتيد، فلجأت للصمت، فى الترانزيت فى أبوظبي ، جلست فى مسجد السيدات أؤدي صلاة الفجر وفى الواقع إكتشفت أن المسجد يقع إلى جوار بوابات الركوب للرحلة المتجهة إلى جاكرتا، و هالني عدد المسافرين وقتها، وعلى الرغم من توافر كراسي مريحة تعمل على تمديد جسم المسافر وإتاحة فرصة للنوم له، إلا أن إزدحام المسافرين جعل أعداد تلك الكراسي يبدو وكأنه قليل للغاية، ثم إسترعى إنتباهي حجرة مغلقة من الزجاج يقف بداخلها المدخنين فى مشهد بديع لمفهوم الحرية بإتاحة الفرصة لغير المدخنين أمثالي أن يتنفسوا الهواء النقي بلا تلوث. و مع ساعات الصباح الأولى حان وقت صعودنا على متن الطائرة إلى جاكرتا.

خط الإستواء كان أمرا ندرسه فى الجغرافيا قديما، لكن يبدو الأمر أكثر حماسة عندما تشاهد  كيف تعبره فى رحلتك على شاشة الطائرة الإليكترونية، و طبعا لم يغمض لي جفن !!

أحببت أن أؤدي صلواتي و أنا على متن الطائرة ، قصرا و جمعا، حتى إذا أدركني النعاس و جائني النوم عند الوصول أكون قد أتممت فروضي بلا تعب ولا كسل.

عند هبوطك بمطار سوكارنو- هاتا  الدولى ، يسترعى إنتباهك وجود صورة للزعيم الراحل جمال عبد الناصر ، فيما يبدو كإشارة واضحة على أن العلاقة التى تربط بين إندونيسيا و مصر هى علاقة ذات مواصفات خاصة جدا ، تمتد عبر التاريخ ،  اكدتها المواقف المشتركة بين البلدين و حالة التقارب بين شخصية جمال عبد الناصر كزعيم عربى ، و شخصية سوكارنو كزعيم أسيوى ، جسدت حياتهما إلهاما و ملحمة تاريخية ساهمت فى تحرير وجدان الشعوب قبل تحرير اراضيها .فى مطار جاكرتا، المخارج محددة بألوان واضحة فى الأرض توضح لك خط السير والخروج كما تحمل علامات على الأرض تقودك إلى دورات المياه، او إلى الإستراحات و المقاهي، بدا لي الأمر و كأني فى بيتي ولم أشعر بغربة رغم السفر الطويل، و زاد من إحساسي بالألفة بالمكان الذى تطؤه قدماي لأول مرة رؤيتي لصورة الزعيم جمال عبد الناصر كما ذكرت.

جاكرتا هى العاصمة الأندونيسية التى هبطنا بها ، و تقع فى منطقة الأستواء ، فهى تحت خط الإستواء مباشرة ، و هنا ندرك بأنفسنا قيمة ما تعلمناه فى الصغر حول توزيع الأرض إلى مناطق جغرافية ذات طبيعة خاصة و فق خطوط الطول و دوائر العرض الوهمية لكنها واقعية جدا عندما تزورها على أرض الواقع ، أما الجو فرطب وحار.



 

 خرجنا من المطار و كان هناك شاب لطيف يدعى "حافظ" ينتظرنا ليحمل حقائبنا ويضعها فى سيارة خاصة لتنقلاتنا، كان " حافظ" قام بالتنسيق المسبق مع الفندق لإستقبالنا، وبإبتسامته و عربيته الجميلة كان خير ترحاب لنا بعد سفر طويل، طبعا فارق السن بيني و بين الشاب اليافع جعلني أشعر بشيء من القرابة تجاهه و كأنه فرد من عائلتي، و يبدو ان شعوري قد إنتقل إليه لذا بدأ فى معاملتي بطريقة خاصة و بشيء أكبر من العناية عن باقي أفراد الطاقم.. لكم أسعدني ذلك كثيرا !!

فى الطريق هطلت علينا الأمطاربغزارة ، و كالعادة إعتبرت ذلك علامة من علامات المباركة، غير أني عرفت فيما بعد بان نوفمبر هو موسم الأمطار فى إندونيسيا، وبدأ "حافظ" يشرح لنا كيف أن الدفع مميكن على الطرق بحيث يحمل كل سائق كارتا خاصا يقوم بإدخاله عبر نافذة معينة لجهاز خاص لخصم رسوم الطريق، ثم يسترجع الكارت من الجهاز مرة أخرى، و بدأ كذلك فى تعليمنا أول كلماتنا الإندونيسية، إذ تتحدث إندونيسيا بلغة البهاسا رسميا، و أول الكلمات التى تعلمتها كانت " سلامات باجي" و التى تعني صباح الخير.

و الأمطار المتساقطة بغزارة ظلت تستقبلنا طيلة طريقنا إلى الفندق القابع فى وسط البلد ، حيث لا تعتمد الفنادق على روادها من الأجانب فقط بل أيضا من الأندونيسيين المقيييمين الذين يحضرون عادة للإقامة لقضاء الأعمال ، أو حتى للترفيه ، و بداخل كل فندق يوجد مكتب خاص للسياحة الداخلية و الخارجية، فى الواقع لم نصل فى الصباح بل وصلنا فى المغرب و رويدا رويدا بدأ الظلام يتحسس طريقه إلينا، وكان " تقوى" زميل " حافظ" ينتظرنا فى فندق صغير يحمل أربعة نجوم فى وسط جاكرتا العاصمة، و إلى جوار الفندق يقع مول كبير للتسوق و تغيير العملات، إلى جانب تراص المطاعم المختلفة حوله ، و فى ظني أعتقد أن الفندق كان إختياره موفقا جدا لأني فى ذلك الوقت كنت أحمل الكثير من الفضول حول المدينة المزدحمة ، فى إندونيسيا السيارات مقودها على اليمين و ليس على اليسار كما هو الحال فى القاهرة، و توجد فى جاكرتا المزدحمة ليلا نهارا، أسراب متدفقة من الموتوسيكلات، إكتشفت فيما بعد أن معظمها مملوكا لشركات النقل المؤجرة عبر تطبيقات المحمول و التى أصبحت منتشرة حول العالم، لذا قال لي " حافظ" أن تطبيقي الموجود على هاتفي يمكنه العمل بسهولة فى جاكرتا، و لحسن الحظ فأنا معتادة طول الوقت على تفعيل خدمة التجوال للمحمول حيثما سافرت و إرتحلت، لكن مع ذلك كانت المفاجأة السارة أني إستطعت الحصول على رقمي الأندونيسي هناك نظرا لقلة تكلفة الأنترنت فى حال إستخدامي لشبكة محلية، و سهولة الشحن للباقات إليكترونيا دون الذهاب إلى مكتب متخصص للشبكة التى إشتركت بها من خلال ماكينات الكروت الذكية أو الشحن المخصصة لذلك.

وفى الريسبشن المخصص للفندق كانت النوافذ عريضة فأمكنني ان أرى بوضوح الأمطار المتساقطة كشلالات رقيقة على نوافذة ، و خلفها تتراقص الإنارة فى خفوت مع الليل المشاغب حيث لا تزال السيارات و الموتوسيكلات و المارة و حانات الطعام و الشراب المؤقتة تملأ الشارع، أنها حياة .. ربما إيقاعها المختلف و نمطها المختلف لكنها تظل بالنسبة لي حياة .. ما أعذب هذا المشهد!

حصلت على مفاتيحي، و قمت بتحويل أول 100 دولار لي إلى العملة الإندونيسية و المفاجأة أني .. أصبحت مليونيرة هههههه ، بل و أكثر مع بضعة مئات من الألاف و كان الشعور مثيرا جدا بالنسبة لي!!!

صعدت إلى غرفتي لتبديل ملابس السفر المرهقة، و الإغتسال و التألف مع الغرفة، كان لونها ورديا فى هدوء و مياهها دافئة و ملاءات السرير بيضاء ناصعة، و كان بها كل ما أود الحصول عليه، قوابس الكهرباء لشحن البطاريات و المحمول و اللاب، و مكتب للعمل و التلفاز الذى أفتحه فقط من باب الفضول لرؤية برامجهم التلفزيونية و مسلسلاتهم ، و موادهم الترفيهية و إعلاناتهم.

و مضيت فى إسترخائي لدقائق حتى إتصل بي السيد " إروان" ليطلب مني النزول و تناول العشاء بالفندق، وعلى العشاء عرفت أن اللحوم باهظة الثمن جدا فى إندونيسيا، ويعود ذلك إلى قلة أعداد المواشي التى يتم تربيتها هناك، لذا يتم الإستعاضة عن بروتين اللحوم بالتوفو وهو البروتين المشتق من فول الصويا، و فى واقع الأمر انا دوما ما أحب تجربة الأطعمة و المذاقات الجديدة، لكل بلد حول العالم ، و لا يخيفني أبدا أن أتذوق أى شيء غير مألوف أو جديد ، بل أعتبر أن ذلك جزء من معرفتي لثقافة الأخرين و التعايش معهم والإقتراب منهم، فالأطعمة و اللغة و الإحتفالات تشكل مثلث فهم الشعوب بشكل عام.

حتى لحظة إنتهائنا من العشاء و صعودنا للغرف للنوم والإستعداد لأول يوم تصوير فى جاكرتا، كان كل شيء على ما يرام بالنسبة لي، فقط كنت أبعد عن عقلي شبح التفكير فى أنه ربما و تحت أى ظرف من الظروف لن أستطيع النوم فى مكان جديد و سرير مختلف مع ساعات سفر طويلة قرابة يوم و اكثر. ... لكن عقلي كان متعاونا جدا معي فنمت!!

صحوت على أذان الفجر فى أندونيسيا... هل تصدقون ذلك؟ كيف عرف عقلي و ساعتي البيولوجية أن الفجر سيؤذن فى ذلك التوقيت ، لا أدري لكني أستمتعت فى الحقيقة جدا بهذه الصدفة المريحة للأعصاب، و إستمتعت أيضا بصلاتي الفجرية و أدعيتي ، و لا أعرف كيف إنتهيت من كل شيء سريعا ، ثم شعرت أن الغرفة صغيرة و لا يمكنني الجلوس فيها أكثر من ذلك فنزلت إلى الريسبشن، والذى كان فى حقيقة الأمر المطعم أيضا فى هذا الفندق الصغير ، ربما كان ثلاثة نجوم و ليس أربعة لا أدري و لا يهمني ، مازلت أراه متكدسا بالزوار و الأجانب و الإندونيسيين، و كان به عدة طوابق و به قاعات للمؤتمرات و الإجتماعات الرسمية ، و كان تصميمه عصريا و يبعث على الراحة فى نفس الوقت، و عندما نزلت إلى الريسبشن كنت أظن أني سأكون المبكرة الوحيدة من طاقم الإعلاميين المصريين وأن الأمور ستكون هادئة تماما ، لكني كنت مخطئة، فهناك رأيت زملائي و كانت وجوههم تبعت على الرعب هههههه ،إذ لم يغمض لهم جفن!!!

الثلاثي المرح "المرعب- بعد هالات عدم النوم السوداء و الأعين الحمراء من السهر!" و كأننا على أعتاب الهالوين، مؤمن لم ينم فأخذ كاميرته و بدأ فى تصوير الشوارع ، فى صحبة مصطفى و مريم ، حيث بدأ السكان فى الحديث معهم ، و كان مصطفى شابا مرحا يحب الضحك و التواصل مع الأخرين، و كذلك مريم ،  بينما يمثل مؤمن جيل الوسط الرزين، و يبدو ان هذه التركيبة الثلاثية بينهم جعلت من المحال لهم أن يغمض جفن فى أول ليلة لهم فى إندونيسيا، و جلسنا نتجاذب أطراف الحديث و أنا أستمع لمغامراتهم المضحكة، وأنا أقول لنفسي " هل كبرت فى العمر؟!! لماذا ذهبت فورا للنوم، ولم أكن معهم فى الخارج ؟!!!"

اليوم الأول في موناس و مسجد الإستقلال

بدأ المطعم فى العمل و ذهبنا نستطلع" بكل ما تحمله الكلمة من معاني" نوعية الفطور فى إندونيسيا، و كانت المفاجأة بأن الوجبات جميعها من العيار الثقيل، الأرز، الدجاج، التوفو، الأسماك، المكرونة، الحساء، و الفواكه الإستوائية، و الحلي الذى لم أعرف فى واقع الأمر كيف يمكنني أكله، و ما أغضبني حقيقة هو ان جميعها كانت تحمل لافتات بلغة الباهاسا، و لم توجد ترجمة واحدة للغة الإنجليزية أو حتى العربية، و بدأت أحاول أن اتعرف على رواد المطعم طلبا للنصح و التفسير أو حتى ترجمة المكتوب، ثم لم اجد الكثير من حولي يفهم الإنجليزية، و بدا لي أن طاقم الصحفيين قد قابله نفس الأمر فقررنا أن نتعامل بأنفسنا و نجرب، نقف فى الصف و نراقب ما يحدث للضيف أمامنا ، و ربما ندون ما يفعل مع كل إناء، ثم نقلده، طبعا لم نأخذ كل شيء لكننا بدأنا على الأقل بالتعرف على بعض الأمور، " مؤمن كان من الصعيد المصري لذا إتجه للفاكهة فورا، و لم يجد حرج فى تناول الأرز كإفطار إلى جانب اللحوم المتاحة، بينما عثرت أنا أخيرا على سيدة تتحدث الإنجليزية فشرحت لى أن هذه الطاولة تضم حساء كثيف لا أعرف الترجمة الفعلية له بالعربية لكنه بالإنجليزية يسمى" Porridge" وقد تم طهيه بالدجاج و الأرز سويا، و حوله توجد إضافات متعددة تصل إلى حوالي عشرة أصناف، منها على سبيل المثال لا الحصر المكسرات ، رقائق البصل المقرمش المحمر، و الصوص و الشطة، و قطع نثائر الدجاج الرفيعة، و صوص الثوم بالأعشاب،  و غيرها ..و سألتها أي الإضافات أطيب فذكرت لي نثائر الدجاج و البصل و المكسرات وصوص الثوم بالأعشاب، لذا أخذت بنصيحتها ، و وقعت فى غرام هذا الحساء المطهي جدا كان دافئا منعشا و قويا شعرت بالإمتلاء بعده و لم أقوى على نتوال شيء أخر بعد ذلك.



 فى السيارة إلى أول مزار لنا فى اليوم الأول، كان السيد " إروان" بدأ يحكي لنا عن مترو " جاكرتا" و كيف أن إندونيسيا الأرخبيل الغني بالجزر المختلفة و العديدة  يصعب أن يكون لديها مترو للأنفاق، بل و أن هذه التجربة كانت قد تمت بالفعل لكن الأرض ليست على العمق المناسب لها، ثم وصلنا إلى وجهتنا الأولى وهي " موناس" نصب إندونيسيا التذكارى و علامة الإستقلال عن هولندا بعد إحتلال دام أكثر من 300 عام ، إنه موناس ، البرج العالى الذى يعلو قبته شعلة تم صنعها من الذهب الخالص تزن حوالى 35 كيلوجراما. بدأ بناء البرج فى 17 أغسطس عام 1961م ، و إنتهى العمل ببنائه فى 12 يوليو 1975م حيث كان إفتتاح البرج رسميا ، و جاء إنشاء البرج  الذى يرتفع حوالى 132 مترا من أجل تخليد إستقلال أندونيسيا عن الإحتلال فى عام 1945م، لا يمكنك أبدا الشعور بالفرق بين إزدحام الشوارع فى القاهرة المكتظة بالسكان و بين جاكرتا المكتظة بالسكان أيضا ، إذا يبلغ تعداد سكانها حوالى ( 20 مليون) نسمة ، يعمل معظمهم فى سن صغيرة ، لكن أكثر ما أسترعى إنتباهنا هو الدراجات النارية ، و التى تسير بأعداد غزيرة فى شوارع جاكرتا ؛ إذ تعد  الدراجات النارية وسيلة مواصلات سريعة و فعالة وسط الزحام ، و تعمل عدة شركات فى مجال إستثمار الدراجات النارية فى التوصيل كما قامت الحكومة بإعتمادها كوسيلة مواصلات ، تتطلب إجراءات خاصة لضمان الأمان و السلامة ، إضافة إلى إلتزامها بقواعد مرورية صارمة للسير فى شوارع جاكرتا .

مواقف الإتوبيس منتشرة على مسافات كبيرة، لكن ما شدني هو طريقة ركوب الأوتوبيس ، فالمواقف عالية عن الأرض بمسافة كبيرة، ثم هناك ميكانيكية ديناميكية للأتوبيس أنه عندما يقف عند كل محطة يرفع مستوى بوابة الدخول حتى تتساوى مع المحطة و بذلك لا يشعر الراكب بعناء رفع قدميه خاصة عندما يكون من كبار السن أو ذوي الكراسي المتحركة لأن فى هذه الحالة الحافلة ستكون فى نفس مستوى المحطة كما ذكرت إضافة إلى أن الحافلة تمد جزء فيما يشبه رصيف للضمان.

فى أسواق " موناس" الجميلة أكثر ما لفت نظري هو الألوان البديعة، و المستوحاة من الطبيعة الغنية بالألوان فى إندونيسيا ،و هالني أن مع الزوار الأجانب كان هناك عدد كبير من الزوار من المدارس الإندونيسية و خاصة للمرحلة الإبتدائية، إلى جانب الأسر و العائلات الإندونيسية، و كنت أظن فى باديء الأمر أن الأمر متعلق بعطلة ما لذا كان عدد الزوار كبير من السكان المحليين، لكني ادركت بعد فترة أن هذه طبيعة الشعب الإندونيسي فى الحياة، الجميع يحب الخروج و التنزه ، و حينها قلت فى نفسي ... لو كنت صغيرة فى العمر و لم أتزوج بعد و كنت على علم بهذه المعلومة لما ترددت فى أن أتخذ زوجا إندونيسيا ، يحب الخروج و التنزه ، أليست هذه أحلام الزوجات و سبب الشجارات العائلية خاصة بعد كوفيد -19 و عزلته الموحشة.

وكان لابد و أن ننهي التصوير فى النصب التذكاري حتى يستنى لنا اللحاق بموعدنا مع نائب وزير السياحة الإندونيسي، حيث قمت بالتنسيق من القاهرة مع مكتبه بمساعدة السفارة الإندونيسية فى القاهرة و تحديد موعد معه، تضمن ذلك الأسئلة المقترحة لسيادته و الهدف من برنامجنا الإعلامي بإلقاء المزيد من الضوء على التعاون بين مصر و إندونيسيا ، و عن العلاقات القوية التى تربط بلدينا، و كذلك البرامج المختلفة لتعزيز السياحة بين البلدين.

 وفيما يلي سأعرض مقتطفات من أهم ما أدلى به إلينا من حديث صحفي لأنه فى الواقع كان أمرا هاما و ملهما فى نفس الوقت؛ فقد ذكر سيادته لنا:" نحن نؤمن بأن أندونيسيا الجديدة لا بد و أن تعتمد على الصحافة ، لهذا بدأنا من خمس سنوات ماضية بأن نرعى بواسطة التمويل أن نرعى الصحافة ، و تشمل كل الوسائل منها الإجتماعية و صحافة المواطن ، و التلفزيون و الطباعة ، و ثانيا ندعم زيارات القادة و متخذى القرار فقد يكونوا من متخذى القرار أو من الحكومة و الدبلوماسيين،الثالثة هى رجال الصناعة ، لأنهم يقومون بدراسة منتوجهم ثم التسويق له بشكل جيد لذا نثق بهم،...... الأن نركز على أهم مراكز قوتنا . 17 ألف جزيرة نمتلكها و هذا فى حد ذاته نقطة قوية ننطلق منها  ، لذا لابد من تطوير 222 مكان  كوجهة سياحية ، لكننا نركز على عشرة أماكن فقط و أسميناها 10 بالى الجديدة ، لم نتكلم عن بالى  فهي مشهورة بالفعل، و لكن سنأخذ بالى كدراسة حالة ثم نبنى على الميزة الخاصة الموجودة بكل مكان ، و بالتالى نركز عليهم فى نفس الوقت، مثال : لدينا توبالى ، و هى واحدة من أكبر البحيرات فى أندونيسيا ، و منذ 5 مليون سنة مضت كان هناك بركان ثائر ،  ويوجد لدينا كومودو  حيث كان التنين القديم يسكن المدينة ، و بالتالى الأولوية هى التركيز ، فقط على أماكن يستحيل أن تجدها فى اى منطقة أخرى بالعالم ونقوم بالتسويق لها، و بالتالى نحن لا نهتم فقط ببلاد معينة ، أما الأمرالثالث فنعمل بنطاق و فكر 360   درجة فى توزع و إنتاج الترويج للسياحة ، بمعني انه كلما طافت عينك محيط دائرة كاملة أى 360 درجة ستجد إندونيسيا حولك دائما، حيث سيرانا العالم حيثما كانوا ،نظهر على شاشاتهم،على مواقعهم التى يتفحصونها، أو عندما يذهبوا إلى أكسبو يجدونا حولهم بكل خدماتنا ، و قهوتنا ، الدعاية هى ما نعمل عليه الأن ، نثير الفضول و الرغبة فى السماع ، و الرؤية".

 إلتقطنا صورا تذكارية مع سعادة نائب وزير السياحة الإندونيسي،  و الذى أرشدنا إلى معرض مقام فى ديوان الوزارة للمنتجات الإندونيسية تعزيزا للمرأة المنتجة والأسر الإندونيسية، و بالفعل ذهبنا لزيارة المعرض وكان مليئا بمنتجات كثيرة ، لكننا فضلنا ألا نشتري شيئا إلا بعد أن ننهي برنامج الزيارة الخاص باليوم الأول، حيث بدأت الشمس فى الإنكسار و كنا نود تصوير أكبر قدر ممكن من الأماكن ، كما أننا  كنا لم نتناول الغذاء بعد ، لذا إتجهنا إلى مطعم يقع فى وسط المدينة بالقرب من وجهتنا المقبلة و كان المطعم جميلا للغاية و كبيرا فى الحجم احسبه يتسع لأالاف الأفراد دفعة واحدة، و كان نظام طلب الأطعمة مختلف بالنسبة لي ، حيث توجد قائمة مصورة على هيئة بطاقات صغيرة لكل نوع من أنواع الأطباق التى يقدمها المطعم لرواده، و على الضيوف إختيار العدد المناسب من البطاقات بحسب رغباتهم فكل بطاقة تعبر عن عدد الأطباق المطوبة بينما صورة البطاقة تعبر عن الوجبة نفسها ، فكل بطاقة عليها صورة الطبق و معلومات عن مكوناته و سعره كذلك، و كان لكل منا إختيارين ، و كان من عادة الإندونيسيين المشاركة فى الطعام بحيث نتناول جميعنا من كل الأطباق الموجودة و راقت لنا الفكرة جميعنا فأخذنا نطلب أطباقا متنوعة لنتذوقها ثم نعرب عن احكامنا على كل طبق، و فى الواقع كان هذا المطعم محترفا بمعنى الكلمة و شهيا للغاية كل ما قدم هناك كان غاية فى الروعة، لكني أدركت أن الخضار ليس موجودا فى إندونيسي ابوفرة ، لذلك كان لديهم نوع من الأعشاب البحرية المطهوة بالثوم و الشطة و كان هذا واحدا من أطباقي المفضلة هناك، إضافة إلى التوفو ، و السمك المطهي بنكهة الحلو اللاذع، و تعلمت كذلك أن المياه عادة ما تشرب دافئة فى إندونيسيا ، غير أن المياه الباردة متوفرة أيضا، لكن يبدو انها عادة لديهم شرب المياه الدافئة، بينما يتناول الإندونيسيون الشاي باردا ( أيس تي)، و بالنسبة لي كان الأمر متقبلا خاصة أن مذاق الشاي كان حلوا بدون سكر.

أنهينا الغذاء،وعدنا إلى حيث " موناس" وعلى إمتداد البصر من " موناس" ذو القمة المصنوعة من الذهب الحقيقي، تجد مسجد الإستقلال أكبر مسجد فى إندونيسيا، و يعد  مسجد الإستقلال علامة مميزة لجاكرتا  حيث يعتبر المسجد الذي يقع في ساحة مارديكا في العاصمة الإندونيسية أحد أكبر المساجد في جنوب شرق آسيا بطرازه المعماري، حيث يتميز بتعدد طوابقه الضخمة  فللمسجد خمسة طوابق  تتسع لأكثر من حوالي 200 ألف مصلي  يوميا ، كما يمتاز بساحاته الخارجية الواسعة.ويلفت نظرك في أعلى المسجد الذي يصنف أنه الثامن عالمياً قبتان كبيرتان ومئذنة بطول 90 متراً، أما سقف المسجد فتزينه الزخارف الإسلامية بأشكال وألوان متعددة وفي جدرانه كتبت عبارة لفظ الجلالة الله ومحمد بشكل بارز.ويقابلك في مدخل المسجد عدد من الأشخاص أشبه بمكتب استقبال مهمتهم صف أحذية المصلين في رفوف خشبية ومنح كل مصل رقماً خاصاً يحتفظ به لاستلام حذاءه بعد فراغه من أداء الصلاة.وعند دخولك المسجد تشعر بالأجواء الإيمانية التي تلف المكان الواسع؛ فهذا مصلٍ احتضن كتاب الله في تلاوة خاشعة، وآخر يؤدي صلاة السنة الراتبة بكل طمأنينة، وثالث اصطحب ابنه الصغير للصلاة ولسانه يلهج بالدعاء والذكر.أما النساء في آخر المسجد فتتعجب من كثرتهن وخشوعهن في الصلاة وهن يلفن رؤوسهن بالحجاب في منظر مهيب.ولا تقتصر رسالة المسجد على أداء الصلوات المفروضة فحسب، بل تمتد إلى أبعد من ذلك من خلال إنشاء فصول دراسية لتحفيظ القرآن الكريم تستهدف البنين والبنات وكبار السن وتوعيتهم في جوانب العبادات وشرح مناسك الحج والعمرة من خلال تنظيم المحاضرات التوجيهية والدورات التدريبية على مدار العام.وتحيط بالساحات الخارجية للمسجد بحيرة صناعية ونافورة وأسواق تجارية، ويعج المكان بحركة غير عادية من الزوار حتى من غير المسلمين وهم يحملون هواتفهم المحمولة لالتقاط صور تذكارية مع المسجد.وتشير تقارير إعلامية إلى أن بناء المسجد تطلب 14 عاماً بدءا  من (1961- 1975)، وسمي بمسجد الاستقلال؛ لأنه شرع في بنائه بعد استقلال إندونيسيا عن هولاندا في 1949، وأراد الإندونيسيون حينها أن يشيّدوا مسجداً عظيماً يليق بسمعتهم كأكبر بلد إسلامي سكاناً، بتعداد 240 مليون نسمة. وفى رمزية للتعايش الديني السلمي فإلى قبالة المسجد الضخم ، تقع الكاتدرائية  الكاثوليكية الكبيرة والضخمة  وهي كاتدرائية تاريخية أيضا لا يفصلهما سوى شارع صغير. خرجنا إلى تصوير النصب التذكاري من زاوية المسجد حيث كان هناك شرفة واسعة جميلة هبط بها سرب من الحمام المزوار و المتألف مع المسجد، و كان منظر غروب الشمس فوق القبة الذهبية شاعريا جدا، خاصة مع أسراب الحمام التى أخذت تطير مبتعدة، لوحة فنية مصورة صاغها القدر. 

 يتبع .. الجزء الثاني 


تعليقات

المشاركات الشائعة